أحمد حسن عوض يكتب: الآخرون بين الغربة الفردية ورسوخ المكان

الخميس، 11 أبريل 2024 06:50 م
أحمد حسن عوض يكتب: الآخرون بين الغربة الفردية ورسوخ المكان أحمد حسن عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الآخرون

يوزعون عزاءهم بيني وبينك
والرؤى تهتز ساقطة على كفيك
حين أتيت حافية
لم تسألك أقدامي عن المعنى
ولا الطرق اشتكت غير ابتعاد اللحظة الأولى عن العمر المراق
بتلك الأسطر النابضة يستهل الشاعر حسين القباحي عنوان ديوانه الفارق "الآخرون" الذي هو في حقيقة الأمر عنوان لقصيدة واحدة طويلة تمتد عبر مائة وثمانين صفحة من القطع المتوسط لتسجل شهادة إبداعية يمررها الشاعر من خلال رؤية فردية ملتحمة بلحظة عصرية مرتبكة تجلت مناهضتها عبر صياغة خاصة تحتفى بالمكان/التاريخ/ الميلاد/ النشأة في صعيد مصر بموروثه الفرعوني المتجذر في عمق التاريخ المسيج بجدران المعابد والممتد بامتداد نهر النيل وعطائه السرمدى الدفاق، وتؤكد في الآن ذاته انتماءها الأصيل إلى الحضارة العربية الإسلامية عبر معجم يستحضر آفق الصياغات القرآنية ليستظل بعطائها الوارف الممتد ويستلهم أنفاس التصوف الدافئة وتجلياته الفاعلة الممتزجة  بخصوصية المكان/الأقصر ليناهض بها أزمات التحول الحضاري العولمي المهزوم في عالم يقول الشاعر عن أفراده:
"ولأجل أن يتفرقوا
التصقوا
بأعمدة من الأسمنت والفولاذ في مدن مسيجة
بأفكار مشوشة
وبعض جنون"
وإذا كان الديوان/ القصيدة مضمخا بحس وجودي اغترابي لافت عبر عنوانه الذي يستحضر في عمقه  الشاعر المقولة الشهيرة لجان بول سارتر الجحيم : "الجحيم هو الآخرون" حيث ينطوى كل تجمع بشري على صراع، وعبر مفتتحه الذي يشى باغتراب الشاعر منذ لحظة  الميلاد وتحسره على عمره المراق المبتعد عنها مسرعا باتجاه الموت فإنه - برغم ذلك - يؤمن بخلود الشاعر صاحب المخزون المعرفي القادر على صياغة خصوصية المكان/ التاريخ/ الدين/العادات/ التقاليد برغم المعاناة الاجتماعية وقسوة مظاهر الطبيعية:
"لم يكن للدور والحارات
من شكوى ولا ألم
فحينا
تملأ جيبها السري
بالأشجان والحلوى ونعناع المودة والصفاء
ومن مسارب روحها أعيادها
ومواسم المطر الشحيحة والظلال
لأعياد ستهبط فجأة
ظلت تعلم نفسها الصبر الجميل
وتستعين بما وعت من غابر  
الأزمان والصلوات"

ومن ثم فإن لدى الشاعر الملتحف بطقوس الجماعة والملتحم بتقاليدها العريقة وحضارتها الراسخة وأحجارها المنقوشة الخالده ما يجعله يعيد كفة الصراع إلى الاتزان، وهو الخارج من قرى تحتفى بجلال الموت لتمارس صنع بهجة الحياة!!

" لجلال وجه الموت
تخرج من مخابئها القرى
وتوزع حلواها في الطرقات"
وفي هذا الإطار الجماعي المتناغم -برغم قسوة الغربة بتجلياتها المتعددة مكانيا ونفسيا وحضاريا- يمكن للشاعر أن يكون: "متكأ للغاوين
ويمكن للمارة والدهماء
وبعض المهووسين  
وجمهرة المنسيين
إذا اختلطت مدن نافرة
بقرى ساخطة
وتعتق في فقه الأيام
بهاء الغربة
أن يلجوا"
ويمكن أيضا لمن يلج إلى قراءة الديوان/ القصيدة أن يجد أنماطا من الأداء المجازى والأسلوبي المتكئ على علمي البيان والمعاني، إذ يلفت إلى جماليات اللغة العربية وعراقة بلاغتها القادرة على التجدد والحضور الراسخ في لحظتنا المعاصرة الراهنة حيث فاعلية الاستعارة التي كان يقول عنها أرسطو  "إنها وجه المجاز المشرق"
بالإضافة إلى جماليات التقديم والتأخير، والفصل والوصل، التي يجيد الشاعر العزف على أوتارها صانعا ما يطلق عليه علماء النحو الآن: "التماسك النصي"الذي يتجلى عبر نفس سردي لافت يصعد باتجاه التنامي محملا بأداء رمزي شفيف يحيل إلى وقائع سياسية، وتحولات اجتماعية  وأزمات تهدد المصير، ويكشف عن رؤية متماسكة  تشى بمدلولاتها للقارئ المثقف الحصيف الذي يغدو بإمكانه أن يدرك لماذا  يتجه الشاعر إلى داخله ليفضح خواء الخارج وإلا سيصبح كالجموع المغيبة التي وصفها الشاعر بقوله:
" لم يفهموا
كيف اتكأت على
أو انتبهت لداخلي
أنشأت لي طرقا وراحلة
وليلا للنعاس
وللسفر
جيش كبير ظل يحرسني     
وطوافون حولي مارقون
وعاشقون يفسرون
كانت بلاد في غشاوة صمتها
ترمي إلى الرائين أسرار الولوج"

 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة