لماذا لا يمكن إصلاح السلطة الفلسطينية أو تغيير نهجها؟
ظلت دعوات تغيير السلطة الفلسطينية وإصلاحها تتوالى منذ نشأت السلطة نفسها، ومع كلّ تحدٍّ جديدٍ (ضمن التحدي الوجودي المستمر والمفروض على الشعب الفلسطيني، أي المشروع الصهيوني) تعود تلك الدعوات إلى الظهور والبروز على السطح بصخبٍ أحيانًا. تتمحور مطالب التغيير في ثلاثة محاورٍ رئيسيةٍ هي: العلاقة مع الاحتلال (كون السلطة وكيلًا أمنيًا للاحتلال)، والمصالحة الفلسطينية (بما يشمل المصالحة مع حركة حماس وغيرها من المكونات الفلسطينية في الداخل والخارج، وصياغة استراتيجيةٍ وطنيةٍ فلسطينية توافقيةٍ)، والسياسات الداخلية (من فسادٍ ومحسوبيةٍ واستبدادٍ وخنقٍ للمجتمع وقمعٍ مفرط). يتفرع عن هذه المحاور الثلاثة العديد من القضايا التفصيلية العمومية واليومية في سلوك السلطة.
صاغت مراكز دراساتٍ فلسطينيةٍ تصوراتٍ لعملية إصلاح السلطة الفلسطينية، من أهمّها المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات "مسارات"، الذي يطرح فكرة تحول السلطة إلى سلطةٍ مجاورةٍ للمقاومة، أي ألا تمارس المقاومة بنفسها كونها فاقدةٌ لإمكانية ذلك، لكن بشرط عملها على تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، ومواجهة جيش المستوطنين، وحماية ظهر المقاومة، ضمن عملية إصلاحٍ شاملةٍ، تشمل السلطة ومنظّمة التحرير الفلسطينية. بطبيعة الحال؛ تحقيقُ هذا التصور ليس إلّا ضربًا من الخيال.
والسؤال هنا: هل منظومة السلطة الفلسطينية منظومةٌ قابلةٌ للإصلاح؟ بمعنى هل يمكن النظر إلى تلك القضايا على أنّها انحرافاتٌ عن أصلٍ صالحٍ، ومن ثم من الممكن العمل على تقويم الانحرافات تلك؟ والإجابة ببساطةٍ كلا.
طبيعة السلطة، التي تفرضها ظروف نشأتها وبقائها وأسبابهما، تحتم عليها أن تقام على ثلاثية التبعية والفساد والاستبداد
بدايةً، لا تعد منظومة السلطة الفلسطينية ظاهرةً جديدةً في تاريخ الاستعمار عامةً، فالتاريخ الاستعماري مليءٌ بتجارب مماثلةٍ، من حكومة سايغون في فيتنام إلى حكومة كرزاي في أفغانستان، مرورًا بحكومة فيشي في فرنسا (وهو اللقب الذي أطلقه المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد على السلطة الفلسطينية لاحقًا)، إلى غيرها من الحكومات والأجهزة الحكومية التي أنشأتها قوى الاستعمار والاحتلال في البلاد التي احتلت عبر التاريخ.
فالسلطة الفلسطينية هي فكرةٌ إسرائيليةٌ في الأساس، حاول الاحتلال فرضها منذ احتلال مجمل الأراضي الفلسطينية عام 1967، تحت مسمياتٍ مختلفةٍ. ففي البدايات حاول الاحتلال إقناع عددٍ من رؤساء البلديات والشخصيات الاعتبارية بتشكيل مجلسٍ يمثّل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ويتولى مهمة التفاوض مع الإسرائيليين، بغرض الوصول إلى حكمٍ ذاتيٍ، يعفي الاحتلال من أعباء الاحتلال المباشر. ثمّ حاول ذلك من خلال فرض مجالس محليةٍ مواليةٍ له في انتخابات عام 1976. ثمّ طرح موضوع الحكم الذاتي مجددًا ضمن اتّفاق كامب ديفيد الأول الذي وقع مع مصر عام 1979، بعدها حاول الاحتلال تطبيق هذه الفكرة من خلال ما عرف بروابط القرى في مطلع الثمانينيات. فشلت هذه المحاولات كلّها لأسبابٍ كثيرةٍ، من أهمّها أنّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلة دائما ما اعتبروا أنّ ممثلهم المخول بالتفاوض والتحدث باسمهم وتمثيلهم هو منظّمة التحرير الفلسطينية، فما كان من الاحتلال إلّا أن أتى بمنظّمة التحرير نفسها لتتولى تنفيذ الفكرة التي لم يجد طرفًا فلسطينيًا آخر سواها يقبل به.
بطبيعة الحال، لم تذهب قيادة المنظّمة حينها إلى خيار المفاوضات والتسوية انطلاقًا من التصور الإسرائيلي لطبيعة السلطة الموعودة ودورها، إنّما ذهبت من موقع المهزوم، الذي فقد أوراق قوته النضالية والسياسية بعد خروجه من لبنان، ومن الأردن قبلها، وانشغال العرب بالحرب العراقية الإيرانية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وما إلى ذلك من متغيراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ. بمعنى أنّها كانت مغامرةً أخيرةً لقيادة المنظّمة، وقد سارها الرئيس الراحل ياسر عرفات حتّى نهايتها، وكانت معها نهايته أيضًا. وقد أثبت ذلك أنّ المرحلة الانتقالية في اتّفاق أوسلو لم تكن انتقاليةً بل كانت فعليًا الحل النهائي من وجهة النظر الإسرائيلية، في زمن إدارة الصراع، إلى حين يتمكن الاحتلال من حسم الصراع. وذلك يثبت أيضًا، أنّ أحدًا، مهما فعل وادّعى وعوّل وراهن، لن يصل إلى أكثر مما وصل إليه الراحل عرفات في هذا المسار.
بمعنى أنّ السلطة الفلسطينية، التي أرادها بني غانتس خلال لقاءاته مع محمود عباس عام 2022، كيانًا أقلّ من دولةٍ وأكبر من حكمٍ ذاتيٍ، كانت وظيفتها أكبر من مجرد وكيلٍ أمنيٍ وإداريٍ للاحتلال، فهي إجابةٌ مؤقتةٌ لمعضلةٍ إسرائيليةٍ في ما يتعلق بمصير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فمن ناحيةٍ لا يريد الإسرائيليون إعطاء الفلسطينيين دولةً على الأراضي المحتلة عام 1967، لأسبابٍ متعددةٍ، أبرزها اعتبار الضفّة الغربية جزءًا من "أرض إسرائيل"، بل في قلبها، وأيضًا يدّعون أنّ الدولة الفلسطينية المستقلة ستشكل خطرًا وجوديًا وقاعدةً للقضاء على دولة الاحتلال. ومن ناحيةٍ أخرى لا يريد الإسرائيليون ضم الضفّة الغربية وفيها ما يربو على ثلاثة ملايين فلسطينيٍ، لأن ذلك، بحسب زعمهم يشكل خطرًا وجوديًا وديمغرافيًا على دولة الاحتلال، بتعريفها دولةً "يهوديةً ديمقراطيةً"، إذ سيتحول الفلسطينيون فيها إلى أغلبية عددية، أو أدنى قليلًا، فإن منحوا الجنسية الإسرائيلية ستزول هوية الدولة اليهودية، وإن مُنعوا منها فستتحول دولة الاحتلال إلى دولة أبارتهايد رسميًّا، ولن يطول الزمن حتّى تجد دولة الاحتلال نفسها مضطرةً لمنحهم الجنسية.
سيظلّ مبدأ إدارة الصراع هو المبدأ الناظم لمصير الأراضي المحتلة عام 1967 إلى حين أنّ يجد الاحتلال حلًّا لهذه المعضلة، وحتّى تحقق ذلك ستبقى وظيفة السلطة الفلسطينية أساسيةٌ، على اعتبارها جزءًا من مبدأ إدارة الصراع، لما تمثّله من واجهةٍ توهم بوجود عمليةٍ سياسيةٍ باقيةٍ ما بقي أطرافها، كما تؤمن حاجزًا سياسيًا وإداريًا يؤمن الفصل بين السكان الأصليين/ الفلسطينيين واليهود المستعمرين، وما يستتبع ذلك من وظائف تتعلق بإدارة شوؤن السكان، والمعاونة في ضبطهم وقمعهم.
ضمن هذا الفهم، لا يبدو غريبًا رفض بنيامين نتنياهو، ومجمل المنظومة السياسية الإسرائيلية لتولي السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزّة، لأنّ هدف الاحتلال هو تهجير الفلسطينيين من القطاع، ويرى الاحتلال أنّ الفرصة قد لاحت لتحقيق ذلك، لذا يحاول تحقيق هذا الهدف بمختلف الوسائل، لذلك فلا حاجة إلى وجود السلطة حلًّا مؤقتًا في قطاع غزّة. لكن إن فشلوا في تحقيق ذلك سيستدعون وجود السلطة الفلسطينية في القطاع على اعتباره حلًّا مؤقتًا، وظيفته الأساسية المساهمة في تحقيق ذلك الهدف كما عبر عنه، بطريقةٍ أو بأخرى، البروفيسور أفرايم عنيفار في ورقته التي عنونها بـ"دعوا السلطة تفشل في قطاع غزّة".
السلطة الفلسطينية هي فكرةٌ إسرائيليةٌ في الأساس، حاول الاحتلال فرضها منذ احتلال مجمل الأراضي الفلسطينية عام 1967
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا تتمرد السلطة الفلسطينية بقيادتها الحالية على غرار التمرد السابق في عهد قيادة عرفات السابقة، ولو باعتبارها ورقة ضغطٍ كما أراد عرفات من الانتفاضة الثانية، أو حتّى تمردًا ناعمًا بالتوقف عن أداء وظيفتها الأمنية مثلًا؟ عمليًا ما يحدث الآن هو العكس تمامًا، إذ تعمل السلطة بجدٍ واجتهادٍ منقطعي النظير في خدمة الاحتلال أمنيًا، مع أنّ موظفيها، المدنيين والأمنيين، محرمون من رواتبهم، إلّا النزر اليسير منهم، جراء قطع الاحتلال أموال المقاصة، وخنقه الاقتصاد الفلسطيني بوسائل مختلفةٍ، فضلًا عن إبادة غزّة، والعدوان المستمر على الضفّة الغربية من قبل جيش الاحتلال ومستوطنيه، وفوق ذلك كلّه سعي الاحتلال العلني لإنهاء وجود السلطة نفسها، والترويج لخطة الحسم، وتهجير الفلسطينيين من الضفّة الغربية وقطاع غزّة.
طبيعة السلطة، التي تفرضها ظروف نشأتها وبقائها وأسبابهما، تحتم عليها أن تقام على ثلاثية التبعية والفساد والاستبداد، فبقاؤها مرهونٌ بالغرض والوظيفة التي أنشئت من أجلهما، ولذلك لا يمكن أن تنفك عن هذه الوظيفة، لأن ذلك يعني زوالها، لا سيّما في الوقت الذي أصبحت فيه مسألة استبدال السلطة الفلسطينية بإداراتٍ محليةٍ دارجةً في الخطاب الصهيونية. فالسلطة تتعامل الآن بنَفسية الموظف الذي يخشى الطرد من عمله فيجدُّ فيه، ويحاول أحيانًا التفوق على مشغّله، كي يثبت جدارته وضرورة بقائه. بطبيعة الحال، تتعارض هذه الوظيفة مع تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله، لذلك يكون الاستبداد والإقصاء والقمع حتميًا، ومكونًا أساسيًا في بنية السلطة، وعلى هذا الأساس عُطِّل المجلس التشريعي، ثمّ حُلَّ، ونُحي القضاء، وقُمعت المعارضة والمقاومة، وأوصدت أبواب منظّمة التحرير الفلسطينية على خرابها في وجه القوى السياسية المعارضة والمنافسة لقيادة السلطة والمنظّمة.
أما ثالثة الأثافي، الفساد، فمن الضروري أنّ تحصل النخبة الكمبرادورية، التي تتولى المهام الخطيرة، على مقابلٍ مجزيٍ لقاء خدماتها، وهذا المقابل مرئيٌ رؤيا العين للناس في الشارع، متمثّلٌ في سياراتٍ فارهةٍ، وسلعٍ استهلاكيةٍ فاخرةٍ، وقصورٍ وأحياءٍ راقيةٍ، وشركاتٍ واستثماراتٍ وعقاراتٍ وأملاكٍ وامتيازاتٍ وتسهيلاتٍ يتمتع بها قادة السلطة من الصفوف الأولى، كما عائلاتهم وحاشيتهم المقربة، ومن يفاض عليهم من هذا الكأس أقربين ومقربين وموالين ومعارف، وهي ممولةٌ، بشكلٍ أساسٍ في المرحلة الحالية، بالضرائب والرسوم والاحتكارات التجارية والمشاريع الربحية، التي تجبى من الشعب الفلسطيني، أو تستغله.
من أهمّ الامتيازات التي يتمتع بها قادة السلطة، ومنتسبوها من أكبرهم إلى أصغرهم، المكانة السياسية والاجتماعية المبنية على النفوذ والخوف، واحتكار صلاحيات المنح والمنع لكثيرٍ من التفاصيل الحياتية. هذا السعي لاكتساب المكانة كان ظاهرةً ملازمةً لقيادة منظّمة التحرير منذ بداياتها، التي كانت مولعة بالسجادة الحمراء، وبسببها ظهر ما عرف بجمهورية الفاكهاني في بيروت، التي لبت رغبات الزعامة والحكم لدى قيادة المنظّمة بإنشاء أجسامٍ بيروقراطيةٍ وإداريةٍ ودبلوماسيةٍ، وعمل عروضٍ عسكريةٍ اشترت لأجلها قيادة المنظّمة دباباتٍ، شبه تالفةٍ، من حقبة الحرب العالمية الثانية. وقد نقلت تلك التجربة بصورةٍ أفظع إلى الضفّة الغربية، مع إنشاء السلطة، فانتفخت المؤسسات وترهلت، وتكاثرت الرتب والمناصب والمسميات الوظيفية، وتعززت مظاهر "الدولة" عمرانيًا وبيروقراطيًا ومراسميًا، ومعها تعززت ظاهرة الاستقواء على المجتمع، وفرض الوصاية عليه، والتعامل معه بنوعٍ من الخسة كي يعرف "من الزعيم هنا".
تخدم تلك الثلاثية بعضها بعضًا بطريقةٍ عكسيةٍ أيضًا، فالفساد يحتاج الاستبداد والقمع لحمايته، وضمان استمرار تمتع النخبة بالامتيازات بمعزلٍ عن اعتبارات الدور الأمني المرتبط بالاحتلال، كذلك بقاء الامتيازات مرهونٌ باستمرار التبعية للاحتلال، كونها مبرر البقاء الوحيد، وكون الاحتلال هو الضامن والحامي لوجود السلطة، على اعتبارها مصلحةً سياسيةً وإداريةً وأمنيةً له.
مختصر القول، ضمن هذا الفهم والإطار نجد أنّ دعوات تغيير السلطة وإصلاحها المتعددة، والتنظير لذلك مجرد عبثٍ ومضيعةٍ للوقت، ولعل تجربة الانتخابات عام 2006، وفوز حركة حماس فيها دليلٌ واضحٌ على أنّ محاولة إصلاح المنظومة من داخلها مسألةٌ غير ممكنة الحدوث، في ضوء ما قدمناه ووضحناه، حتّى لو أتت المحاولة ضمن سياقٍ ديمقراطيٍ وانتخابات، وحتّى أيضًا لو أتت المحاولة من أقطاب حركة فتح نفسها، خصوصًا تلك المعارضة لنهج قيادة السلطة الحالية.
مشاركة الخبر: لماذا لا يمكن إصلاح السلطة الفلسطينية أو تغيير نهجها؟ على وسائل التواصل من نيوز فور مي