الولايات المتحدة وفلسطين... بعد فوز دونالد ترامب؟
قبل نحو أربع سنوات، في عام 2020، خسر دونالد ترامب السباق الانتخابي وفاز جو بايدن، في حين فاز ترامب اليوم وخسرت كامالا هاريس(بايدن)، فما الذي تغير، أو سيتغير في علاقة الولايات المتّحدة، أو سياستها تجاه القضية الفلسطينية؟ بحسب برني ساندرز "تعود الخسارة المدوية، التي منيت بها هاريس، إلى الدعم اللامتناهي الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل".
الحقيقة المُرة والثابتة هنا "أنّ لا شيء سيتغير"، إذ إنّ السياسة الأميركية تجاه ما يُطلق عليه في الجغرافيا السياسية الانكلوسكسونية الشرق الأوسط، وتحديدًا القضية الفلسطينية، هي ثابتٌ لا يتغير، وجوهرها أن لا سياسة أميركية تجاه فلسطين-إسرائيل بل سياسةٌ إسرائيليةٌ تتبناها تلقائيًا الإدارات الأميركية المتعاقبة، إن كانت ديمقراطية أو جمهورية.
جوهر هذه السياسة "تقبل الولايات المتّحدة بما تقبل به إسرائيل"، بمعنى أنّ الخطوط العريضة لأي تحركٍ أميركيٍ تجاه القضية الفلسطينية تقرره الحكومة الصهيونية في فلسطين المحتلة، والدور الأميركي يُصبح دورًا مكملًا للدور الإسرائيلي، بمعنى رعاية التحرك الصهيوني العسكري أو السياسي ودعمه، وممارسة أدوات الضغط كلّها على الفلسطينيين وحلفائهم وأصدقائهم لإنجاحه، كي يقبل الفلسطيني بما يريده الإسرائيلي، ومنع أيّ طرفٍ آخر، عربيًا أو دوليًا أو أمميًا، من العمل وسيطًا نزيهًا، إلّا إذا قبل هذا الوسيط أن يكون دوره مكملًا للدور الأميركي، الذي هو صهيونيٌ في الأساس.
المؤكد هنا أنّ نتنياهو لن يستطيع المهمة خلال هذه المدة، لا على الجبهة الشمالية ولا الجنوبية ولا اليمنية، وهذه الجبهات هي أوراق قوّة المقاومة
في عهد ترامب الأول، جرّدت الولايات المتّحدة الفلسطينيين من آخر عناصر القوّة الناعمة التي كانت في أيديهم في مواجهة الاحتلال، من خلال اتّفاقيات أبراهام، مع أربع دولٍ عربيةٍ، هي المغرب والإمارات والبحرين والسودان، كما كانت السعودية على وشك الدخول في مُستنقع التطبيع مع الصهاينة قبل "طوفان الأقصى"، ما يعني إمكانية جذب دولٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ أخرى إلى المُستنقع ذاته، (أشارت التقديرات في إسرائيل إلى أن إندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش وعمان وعددًا من الدول الأخرى في أفريقيا ستطبع العلاقات معها بعد السعودية). وبذلك تتبخر أداة القوّة الفلسطينية الناعمة الأخيرة، التي اعتمدت عليها القيادة الفلسطينية، أي مبادرة السلام العربية، والتي تحولت في ما بعد إلى إسلامية، كما طلب ترامب من الدول العربية وقف دعم الفلسطينيين ماليًا، سواء كانوا سلطةً أو جمعياتٍ خيريةً، كي يذعنوا ويقبلوا بصفقة القرن، لكنه لم ينجح في إخضاع الفلسطينيين.
قلب الفلسطيني الطاولة خلال العام الفائت والحالي في وجه المتآمرين، وأثبت أنّه الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن صنع سلامٍ واستقرارٍ من دون حصوله على حقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف، وكون الولايات المتّحدة وأوروبا وأنظمة التطبيع العربية قد تجاوزت الفلسطيني، ظنًا منها أنّه دُجن بملهاة السلطة الوهمية وصراعاتها، وأنّه لم يعد قادرًا على تحدي أرادتهم كلهم بخنقه وتقزيمه، لذا فإن تلك الدول ما زالت ترى في نضال الفلسطيني وقتاله الأسطوري أداة تهديدٍ لاستراتيجياتها الحالية والمستقبلية، خاصّةً أن الفلسطيني ليس وحيداً في المواجهة، بل لديه محورٌ يمتد من طهران إلى صنعاء، مرورًا ببغداد وبيروت ودمشق، إذ تسعى تلك الدول، بالسبل كلّها، إلى جعل القضية الفلسطينية مجرد مساعداتٍ إنسانيةٍ، وحلولٍ ترقيعيه لا تلامس الجوهر، أي بعيدًا عن الحق في تقرير المصير، وتشيد الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس، وتطبيق القرار 194، الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هُجروا منها بالقوّة.
أما السؤال عن المتوقع خلال سنوات حكم ترامب الأربعة القادمة، وحول إمكانية حلّ القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني خلالها، ولو بالحد الأدنى، فذلك كلّه يعتمد على كيفية انتهاء الحرب الحالية، فالمفاوضات والصفقات هي محصلة القوّة والقوى في الميدان.
طلب ترامب من بنيامين نتنياهو إنهاء الحرب قبل تسلمه مهامه في 20 يناير/كانون الأول القادم، أيّ بعبارةٍ واضحةٍ قال له "أنجز المهمة"، المؤكد هنا أنّ نتنياهو لن يستطيع المهمة خلال هذه المدة، لا على الجبهة الشمالية ولا الجنوبية ولا اليمنية، وهذه الجبهات هي أوراق قوّة المقاومة، التي لا يمكن أن يتجاوزها نتنياهو ولا الولايات المتّحدة، يضاف إليها جبهة الرأي العام الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان، والمحاكم الدولية، والرأي العام العربي، الذي عبر عن نفسه في دول الاغتراب، في الولايات المتّحدة وأوروبا، كما تجلى في أبهى تجلياته في انتفاضة أمستردام الأخيرة نصرةً لفلسطين، وكذلك فإنّ واقعًا إسرائيليًا، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وقانونيًا، متهتك ومُنهك من الحروب، وتعيش الصدمة والخلل في التوازن.
بناءً عليه، وأمام إصرار نتنياهو على الاستمرار في الحرب حتى النهاية، كونها طوق نجاته هو وفريقه، وأمام عدم انكسار محور المقاومة عامةً، والفلسطيني خاصّةً، من المتوقع التوصل إلى "هُدنٍ" مؤقتةٍ، قد تدوم لفتراتٍ زمنيةٍ طويلةٍ، أقلّها أربع سنواتٍ، من دون تقديم حلولٍ جذريةٍ للصراع الفلسطيني الصهيوني، أي إبقائه مُعلقًا، على ما هو عليه، والعمل على كسر الفلسطيني واللبناني واليمني، سياسيًا واقتصاديًا، من الداخل، عبر تفعيل الأدوات الأميركية، وأدوات الدول المُطبعة، مثل تأجيل إعادة الإعمار، وفرض قيودٍ سياسيةٍ وماليةٍ وقانونيةٍ عليهم، وهو ما سيقود بعد سنواتٍ قليلةٍ إلى اندلاع المواجهة من جديد، بنمطٍ وهيئةٍ مختلفتين عما هما عليه الآن.
لن تغير الصهيونية جلدها، في الكيان الصهيوني ولا في واشنطن والعواصم الأوروبية، كما لن يتنازل الفلسطيني عن حقوقه المشروعة، ولن يتخلى أصدقاؤه الحقيقيون عنه. أرادوها حرب وجودٍ، وهي كذلك، وأثبتت الوقائع أن الميدان من يقرر مصير فلسطين ومنطقتنا، كما ستنتهي هذه الجولة بشكلٍ ما، لكن ترامب الأول لن يكون هو نفسه ترامب الثاني، بل عليه التعامل مع ما رُسم على الأرض من خطوطٍ حمراء بالدم والدموع والآلام. محصلة القوى هذه المرة ليست في مصلحة الصهاينة، بل لها ما يوازيها ويتفوق عليها قانونيًا وأخلاقيًا وصمودًا وبطولةً، كما لن تصلح المستعمرة الصهيونية لقيادة المنطقة، كما أُريد لها، هذا زمنٌ ولى، لذلك فترامب في حاجةٍ إلى مقارباتٍ جديدةٍ تختلف عما سبق.
مشاركة الخبر: الولايات المتحدة وفلسطين... بعد فوز دونالد ترامب؟ على وسائل التواصل من نيوز فور مي