الحقائق والسيناريوهات في العدوان على غزّة
لا صوت يعلو على حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ربما يكون هذا هو الشعار، وهو لسان حال الأغلبية الساحقة للأردنيين، فمنذ أكثر من 70 يوما وهم في الشوارع، وخلف الشاشات، ويقودون حملات المقاطعة للشركات التي تدعم إسرائيل، أو تتضامن، أو تتعاطف معها. وفي قضية فلسطين، لا يوجد مواقف وسط. ولهذا، ورغم المواقف المتقدّمة للحكومة الأردنية، وجديدها أخيرا وجود الأميرة سلمى ابنة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني على متن طائرة عسكرية كسرت الحصار الجوي على غزّة، وأنزلت للمرّة الخامسة إمدادات طبية للمستشفى الميداني، رغم ذلك، يطالبها الشارع الأردني بالمزيد.
الأكثر تعبيرا عن اشتباك الشارع الأردني مع العدوان على غزّة كان استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية الذي أنجز الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وكان حاسما ليس في دعم غزّة، وإنما في دعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إذ أظهر 66% أنهم يؤيدون ما قامت به "حماس" يوم 7 أكتوبر، ويرى 72% أن الوصف الأقرب للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة هو الإبادة الجماعية.
أظهر ما كشفه استطلاع الرأي ما تعتبره الأكثرية مسلّمات لا تحتاج إلى نقاش، فما يقرُب من 80% يتابعون ما يحدث في غزّة، ومصادرهم للمعلومات متقاربة، فـ 50% منصّات التواصل الاجتماعي، وما يقارب 48% محطّات التلفزة، وتستحوذ قناة الجزيرة على الحصّة الكبرى من المشاهدة، والمتابعة بحدود 70%، تليها قناة رؤيا، ثم قناة المملكة، فالتلفزيون الأردني، وأخيرا قناة العربية.
لا يعطي الأردنيون وزنا، أو قيمة لقرارات القمّة العربية الإسلامية، وبالتأكيد غير راضين عن قراراتها
أهم النتائج الحاسمة التي تشكل وجدان الأردنيين قناعتهم أن هذه الحرب لن تستطيع التهجير القسري لأهل غزّة، يرى 91% ذلك، رغم أن 35% يعتقدون أن أولوية الحرب الإسرائيلية التهجير، و44% إضعاف حركة حماس، حتى لا تشكل تهديدا مستقبليا لإسرائيل.
لا يريد الأردنيون أن يلتفتوا إلى ما يطرح من سيناريوهات ما بعد الحرب، ولذلك موقفهم أن حماس ستستمر بحكم قطاع غزّة، يميل إلى هذا الرأي 55% ممن شاركوا في الاستطلاع، وهذا التوجه ينسجم مع غضبهم، وسخطهم من مواقف الدول الغربية، حيث أبدى 86% عن عدم رضاهم عنها، و79% وصفوها أنها غير داعمة، وضعيفة، وغير كافية، وعلى المنوال نفسه، فإن 93% من الشعب الأردني منخرطون في حملة المقاطعة الاقتصادية. وتؤيد هذه النسبة هذا النهج، وأعلن 95% أنهم ذهبوا إلى المنتج المحلي بديلا للمنتجات التي تمت مقاطعتها، ولا يعتقد 72% أن المقاطعة سوف تضر بالاقتصاد الوطني، وقد يبدو هذا مخالفا للهواجس داخل أروقة الحكومة التي تخشى أن تُحدِث المقاطعة أضرارا في الاقتصاد الأردني.
في السياق، لا يعطي الأردنيون وزنا، أو قيمة لقرارات القمّة العربية الإسلامية، وبالتأكيد غير راضين عن قراراتها، والأبرز أن الأمم المتحدة لن تلتزم بقراراتها، سواء في وقف العدوان، أو كسر الحصار، أو الضغط على إسرائيل لوقف التهجير القسري، أو مباشرة مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
يعلن الاحتلال، وبشكل سافر، أن معركته العسكرية ستستمر أشهرا مقبلة، وأن الحل في إحكام قبضته الأمنية
ربما يبدو الشارع الأردني متقدّما في حملات التضامن، والمناصرة لفلسطين، ولكن الواضح أن تحوّلاتٍ شهدها العالم، والمحتوى على منصّات التواصل الاجتماعي يذهب الآن إلى تأييد السردية الفلسطينية، وما عادت خوارزميات منصّات التواصل قادرة على حجب كل الأصوات الداعمة للحقّ الفلسطيني، وتفضح الجرائم الإسرائيلية، وحتى بعض وسائل الإعلام الغربية التي حاولت ترويج "البروباغندا" الإسرائيلية استفاقت وعادت لتتوازن قليلا. ومن الواضح أن الشيك الممنوح على بياض لسلطة الاحتلال أوشك على النفاد. ولذلك، بدأت محاولات خجولة للضغط على إسرائيل تظهر في أميركا، ودول أوروبية تحت يافطة تقليل الأضرار بين المدنيين، وزيادة المساعدات الإنسانية.
لا تبدو القيادة الإسرائيلية مهتمّة كثيرا في الموقف الدولي، وتبدّلاته، وهي تصرّ على إعطائها تفويضا دائما لا يحكمه وقت، أو ممارسات، في أن تفعل ما تشاء، وهذا ما أظهر إلى العلن رسائل توحي بخلافات بين الإدارة الأميركية ونتنياهو.
يعلن الاحتلال، وبشكل سافر، أن معركته العسكرية ستستمر أشهرا مقبلة، وأن الحل في إحكام قبضته الأمنية، وإبقاء قواته المحتلة في غزّة للقضاء على حركة حماس، ولا يجد هذا التوجّه ترحيبا، وحماسا من الدول الغربية التي ما زالت تبحث عن مقارباتٍ سياسية، ولكنها ترى في الحرب على غزّة فرصة للاقتراب من حلّ سياسي ما زالت تفاصيلُه مجهولة.
المرجّح أن خاسرين سيكونان لحظة وقف الحرب على غزّة، الأول نتنياهو وقادة حربه، وكل اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وعلى الضفة الأخرى قيادة السلطة الفلسطينية المتهمة بالفساد، والضعف، وبالتأكيد، لا تستطيع أن تأتي على ظهر دبّابة إسرائيلية لتحكم غزّة بعد "حماس". وحتى اللحظة، يبدو أن سيناريوهات الحلول المسرّبة أميركيا، وأوروبيا، لن تجد طريقها للقبول، أو التطبيق، وحركة حماس صامدة، ولم تنهر، وما زالت تقاوم، وتوقع خسائر فادحة في جيش العدو الإسرائيلي، فلا نصر سياسيا يمكن للقيادة الإسرائيلية أن تروّجه، فقائد "حماس" في غزّة، يحيى السنوار، لم يقع في الأسر، ولم تظهر على شاشات التلفزة الإسرائيلية قياداتٌ سياسية، أو عسكرية من "حماس"، أو من عموم المقاومة، يدلون باعترافاتهم، ويطلبون الاستسلام، وما زالوا في الميدان العسكري في الشمال والجنوب على خط المواجهة، وصواريخهم تصل إلى تل أبيب. والأكثر قسوة للجيش الإسرائيلي عجزُه عن تحرير أسير واحد خارج المفاوضات. والنتيجة، لا نصر سياسيا وعسكريا بعد أكثر من شهرين، وما حقّقوه بشكل فظيع هو التدمير، والقتل، وهو ما لم يشهده العالم من قبل.
ستسقط أي مقاربة سياسية تراهن على مقتضيات العدوان فقط، ولا تقدّم حلا يضمن الحقوق الفلسطينية العادلة
ستذهب كل السيناريوهات أدراج الرياح، وستُحفظ في ملفّات مراكز الدراسات والتفكير الاستراتيجي إذا بقيت "حماس" صامدة، وهو ما يتمنّاه الشارع العربي، حتى لو غضبت من ذلك أنظمة عربية، فلا سيناريو ترحيل المقاتلين من "حماس" والفصائل الأخرى كما حدث في بيروت إلى دول أخرى تستضيفهم ممكن الحدوث، ولا تهجير أهل غزّة إلى صحراء سيناء في المنطقة العازلة ما بين رفح والعريش يمكن فرضُه إذا تمسّك الغزّيون بالبقاء، وأصرّوا على عدم النزوح، ولو سقطوا ضحايا حرب الإبادة، والأكيد أن أي سلطة مقترحة، سواء كانت من غزّة، أو الجنوح في الخيال لقواتٍ عربيةٍ، لن تستطيع أن تحكُم، وستكون لو فرضت مهزلة ساقطة كأي سلطة عميلة.
باختصار، ستسقط أي مقاربة سياسية تراهن على مقتضيات العدوان فقط، ولا تقدّم حلا يضمن الحقوق الفلسطينية العادلة، مع الأخذ بالاعتبار ملاحظتين، الأولى أن "حماس"، وعلى لسان القيادي البارز فيها، موسى أبو مرزوق، أعادت تقديم أوراقها السياسية على أنها جزءٌ من الحل السياسي، فهي حركة سياسية أيضا، وليست حركة مقاتلة فقط، وأنها تريد أن تكون جزءا من منظمّة التحرير الفلسطينية، وأنها، كما فُسّر، لا تمانع في الاعتراف في إسرائيل، وهذا جديد قديم. ولكن التذكير به يؤهلها لتكون لاعبا سياسيا، حتى لو تحدّثوا عن شطبها من الوجود، والملاحظة الثانية أن نتنياهو يفاخر في ظل الحرب والعدوان أنه عطّل حلّ الدولتين، وأنه لن يقبل به، وسيفشله في المستقبل، وهذا يعني، في اتجاه معاكس، أن شطبه، وزجّه في السجن، أمرٌ لا مفرّ منه إن أرادوا لتسوية مقبلة أن تنضج.
بعد أعياد الميلاد، والمضي نحو العام الجديد، يقترب حديث ما بعد الحرب، وكل جعجعات نتنياهو عن استمرارها (الحرب) لن تفيده في البقاء طويلا خارج قضبان الحبس.
مشاركة الخبر: الحقائق والسيناريوهات في العدوان على غزّة على وسائل التواصل من نيوز فور مي