أن تذهب متأخّراً إلى التفاوض!
حتى بداية الأسبوع الماضي، كانت السلطات العسكرية في السودان تظهر تعنّتاً تجاه المجتمع الدولي والعالم، وتوجّه الاتهامات الرسمية، وعبر موالين، إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وأميركا وتشاد والإمارات وكينيا والصليب الأحمر، بأنهم داعمون لمليشيا "الدعم السريع"... ثم فجأة، وخلال 72 ساعة، حدثت التغيّرات الدرامية المذهلة. سقطت مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة. دخلت قوات الدعم السريع ثالث أكبر المدن السودانية من دون مقاومة تُذكر. انسحب الجيش، وسقطت المدينة فريسة للفزع وحالات النزوح الجماعي وفوضى النهب والسرقة.
زاد السقوط السريع من حدّة الرأي المعارض لقائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في معسكر مؤيديه، فبدأت نظرية مؤامرة تتشكل عن خيانة قادة الجيش، وأنهم على وفاق واتفاق مع قيادة "الدعم السريع"! بحسب هذه النظرية، طرفا القتال حليفان مع القوى المدنية في "الحرية والتغيير"، وكلهم عملاء للمجتمع الدولي، ضمن خطّة شيطانية لتفكيك الجيش واحتلال السودان عبر توطين قبائل عرب أفريقيا ووسطها وغربها، وهي نظرية تجعل كل هذه الحرب، والدمار، والمعاناة الإنسانية، مجرّد مسرحية دموية، القصد منها إجبار جنود الجيش والمواطنين على القبول بالتفاوض للوصول إلى اتفاق سلام مذلّ.
رغم تهافت نظرية المؤامرة هذه ولامعقوليتها، إلا أن خلاصتها التي تقول إن الوضع الحالي سيقود السلطات العسكرية إلى القبول باتفاق سلام تكون فيه الطرف الأضعف تبدو منطقية، خصوصا بعد أن أعلن قائد الجيش، في خطاب غريب مساء الخميس 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، عن قبوله دعوة منظمة إيقاد للقاء قائد "الدعم السريع". وهي دعوة أعلنت "إيقاد" موافقة الطرفين عليها قبل أسبوعين، لكن الخارجية السودانية أصدرت بياناً حادّاً اتهمت فيه المنظمّة الأفريقية ب ما لم يتم التوافق عليه!
قائد الجيش موافقته على لقاء قيادة "الدعم السريع" للوصول إلى اتفاق سلام ربطه بتحذيرات من أنه لن يقبل التوقيع على أي اتفاق فيه إهانة للقوات المسلحة. لكن لا يظهر أن الوضع على الأرض يسمح للجيش، حتى لحظة كتابة هذا المقال على الأقل، بمساحة واسعة من المناورة أو فرض الشروط. كان ذلك ممكناً قبل أشهر، وربما أسابيع. لكن الآن، ومع حالة الذعر التي أصابت مواطني ولايات أخرى لم تطاولها الحرب بعد، ونقاشات علنية عن تشكيل وفود أهلية للتفاوض مع مليشيا الدعم السريع عند اقترابها من المدن لتسليمها من دون قتال، ومطالب بعزل قيادة الجيش واستبدالها بقيادة أخرى تخوض الحرب حتى النصر... مع كل هذه العوامل، يبدو أن قائد الجيش اختار الذهاب إلى التفاوض وهو في أضعف حالاته.
على الجانب الآخر، ظلت قوات الدعم السريع تُظهر مكراً أكبر في التعامل مع المجتمع الدولي ومبادراته، فبعكس تصريحات الجيش السوداني، لم يصدر عن مليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) أي خطاب سالب ضد المجتمع الدولي. بل على العكس، أظهرت المليشيا قبولاً لكل الوساطات، من دون أن تنفذ أي خطوة تقرّب من وقف إطلاق النار أو وقف معاناة المواطنين.
يتفق طرفا الحرب في عدم الجدّية تجاه وقف الحرب. ويراهن كلاهما على الحسم العسكري الذي لم يتحقق لتسعة أشهر. لكن بعكس الجيش السوداني، تحاول المليشيا الظهور بمظهر مرن، لا يرفض الوساطات والمبادرات، وهو مظهر مخادع، لا يعبر عن حقيقة ما ترتكبه المليشيا من جرائم على الأرض.
بهذه الخلفيات، قد يلتقي الطرفان خلال الأسبوعين المقبلين. البرهان بوضع عسكري ضعيف، وحاضنة منقسمة، يراه جزءٌ غير قليل منها متحالفاً في الخفاء مع المليشيا، أو غير قادر على إدارة المعركة ضدها على أحسن الفروض، وآل دقلو بتقدّم عسكري، وجرائم حرب وانتهاكات وسجل حقوقي سيئ. وتشابه في عدم الحماس للحل السلمي المؤدّي إلى وقف الحرب، وعملية إعادة تأسيس انتقال مدني ديمقراطي، لأن لا طرف منهما سيقبل بهذا الانتقال، من دون أن يكون جزءاً منه.
مع ضبابية ما يمكن أن يقود إليه اللقاء المقترح من منظمة إيقاد، تظل هناك حقيقة واحدة لا جدال حولها، أن الشعب السوداني وحده من عانى من تأخّر الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، وأن أي اتفاق يمكن توقيعه في يناير/ كانون الثاني المقبل، لو كان الطرفان قبلاه قبل أشهر، لحفظ ذلك الكثير من الدماء.
مشاركة الخبر: أن تذهب متأخّراً إلى التفاوض! على وسائل التواصل من نيوز فور مي