ملاكاي الحارسان

في سنواتي الباريسية إلى حيث رحلت متلطّيةً من الحرب، وحيثُ بقيت توجّسا من سلام مغشوش، قرأتُ كثيرا. كان الوقت بطيئا، ثقيلا، يسير كدبّابة فوق روحي، وكانت المكتبة البلدية مجاورة بيتي في الحي القديم، وتوفّر لي تقريبا كل ما أريد، بخطواتٍ قليلة. أدخل إليها متدثّرة بمعطفي، أظهر بطاقة الاشتراك، وأخرُج منها محمّلة بخمسة كتب، أضمّها إلى صدري، كأنها إعاشتي الثمينة التي ستقيني البرد والجوع أياما. كاتبان تعلّقت بهما آنذاك، ومنذ تلك الأيام، لم يفارقاني، كما لم أفارق بدوري كتبا لهما خاطبت إحساسي العميق بالغربة عن هذا العالم، حاجتي الملحّة إلى العزلة والصمت، والشعور المستديم بالفقد، فكان أن وجدتُ في رفقتهما عزاءً وصحبةً لطالما أخذت بيدي وطبطبت على قلبي.
عنوانان امتلكتُهما إثر قراءتهما، إذ كان يصعب عليّ وداعهما بإعادتهما إلى المكتبة، فمكثا بجانبي لا يفارقانني، وأنهضُ إليهما كلّما انتابتني تلك الرغبة بالنزول عن سطح الكرة الأرضية والتزحلق نحو العدم، أو استبدّ بي الأرق وعاندني الاسترخاء بعد مشاهدة الأنباء القادمة من بيروت المشتعلة آنذاك، ثم من الحروب التي تلتها وزرعت في الأفئدة بذور خساراتٍ قادمةٍ تكاثرت لاحقا كالفطر السامّ. عنوانان تغبّش حضورهما مع الوقت، لكنهما، هنا، منقوشان في الذاكرة أبدا، متهيّئان دوما لتقديم مرافعاتهما عن شقاء هذا العالم الماضي بخطىً حثيثة إلى تفاهته ولا معناه، حيث الشرّ هو القاعدة منذ بدء الخليقة، في حين أن الخير ليس أكثر من فاصلة، دقائق استراحة، بين عرضٍ وعرض، مشهد ومشهد، عنف وعنف:  إنهما "مهنة العيش" و"كتاب اللاطمأنينة".
في "مهنة العيش"، دوّن الشاعر والروائي الإيطالي، شيزار بافيزي (1908 - 1950)، يوميّاته خلال 15 عاما، قبل أن ينهي حياته منتحراً في غرفة فندق "روما" في مدينة تورينو، بعد تسعة أيام فقط من إنهائه يومياته. في غرفته، وُجدت اليوميات التي نُشرت بعد عامين، وقصيدة بعنوان "سيأتي الموت ويأخذ عينيك". كان بافيزي عاشقا للعمل يُنقذه من متاهة نفسه، فعمل مدقّقاً ومحرّراً وناشراً، وترجم عددا من الكتّاب الإنكليز والأميركيين، وكانت أطروحة تخرّجه عن الشاعر الأميركي والت ويتمان الذي أثّر كثيرا في شعره. عاش بافيزي في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من أسوأ الفترات في أوروبا وأكثرها اضطرابا، مع حربيْن عالميّتين مدمّرتين، ونظام فاشي ناضل ضدّه وسُجن، وكانت حياته صراعا داخليا مستمرّا بين رغبة الانتحار ومحاولات العيش، وقد عانى من مشكلاتٍ عاطفية جعلته يسمّي النساء "الشعب العدو". يقول في الصفحة الأخيرة من اليوميات (18 أغسطس/ آب 1950): "كلما تحدّد الألم وكان أكثر دقّة، صارعت غريزةُ الحياة وسقطت فكرة الانتحار.عندما كنتُ أفكر في ذلك، كان الأمر يبدو سهلا. ومع ذلك، فعلته نساءٌ صغيراتٌ مسكينات. يتطلب الأمر تواضعا لا كبرياء. يثير هذا كله اشمئزازي.لا كلمات. حركة. لن أكتب بعد الآن".
العنوان الثاني هو "كتاب اللاطمأنينة"، تُحفة الشاعر والكاتب البرتغالي الاستثنائي، فرنادو بيسّوا (1888 – 1935) الذي لم يعرف انتشارا وشهرة حقيقية إلا بعد أن اكتشفه الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، عام 1964، إثر وقوعه مصادفةً على نصّ مترجم إلى الفرنسية بعنوان "دكّان التبغ"، فكان أن قرّر تعلّم البرتغالية ليصير من مريدي بيسوا وتابعه إذا صحّ التعبير، والبوابة التي ولج العالمُ عبرها إلى أعمال كاتب  العزلة والوحدة بامتياز، وهو الذي أمضى عمرَه وحيدا، يكتب ويأنف النشر، موقّعا أعمالَه بأسماء مستعارة عدّة من بينها ريكاردو رييس، ألفارو دي كامبوس، ألبيرتو كاييرو، برناندو سواريس، أنطونيو مورا، وهي أبرز الشخصيات من بين أكثر من 70 شخصية أبدعها بيسوا ووقّع باسمها. يقول: "اخترعتُ لهم أسماء وتاريخاً لكل واحدٍ منهم، ثم صِرت أراهم واقفين أمامي، بوجوههم وقاماتهم وملابسهم وحركاتهم. وهكذا بات لديّ الكثير من الأصدقاء الذين لم ألتقِ بهم قط، ولم يكن لهم وجود على الإطلاق!".

مشاركة الخبر: ملاكاي الحارسان على وسائل التواصل من نيوز فور مي