وائل الدحدوح لا تحولوا المأساة إلى نصب تذكاري

وائل الدحدوح.. لا تحوّلوا المأساة إلى نصب تذكاري

تم نشره منذُ 3 شهر،بتاريخ: 23-01-2024 م الساعة 06:56:35 الرابط الدائم: https://newsformy.com/news-1979115.html في : اخبار سياسية    بواسطة المصدر : العربي الجديد

من أعماق فاجعة كبرى، آلام شخصية، ومأساة جماعية، بين أحزان خاصة وحزن عام كبير، بين ركام منزله، ومنازل أهله، وجيرانه، وعائلته، وبين أنقاض غزّة كلّها، ذلك الحزن كان يخصّه بكلّ ما فيه من ذرة رماد، ودمعة عين، وقطرة دم، نجا كليًّا وقُتل كلّه ألف مرّة، وما نرى منه إلا بقاياه التي لم تأكلها الأرض، تكريمًا، كأجساد الشهداء والصديقين.

خرج وائل الدحدوح من غزّة نحو مائة يوم من المحرقة، التي احترق فيها ذاتيًّا، في نفسه وروحه وحياته وعمره وقلبه وأحبابه، فضلًا عن احتراق غزّة التي تسكنه ويسكنها، خرج مصابًا مكلومًا فاقدًا وفقيدًا، يتفقّد الحياة حوله، ينظر في الأجواء، يحاول أن يصدّق أنّ هذه الدنيا فيها شيء غير الموت من كلّ جانب، يغمض عينيه فيرى الدنيا ملخصةً في العمى من خلفهما، بعدما فقد قرتهما، ومقلتيهما، والأحباب الذين يسكنونهما، ويفتح عينيه فلا يرى إلا أشباح اللحظة الماثلة أمامه، تُخيّل له حمزة، وأم حمزة، ومحمود، وشام، وآدم، وسامر، وبقية الأحباب والأصدقاء، في وجوه جميع من يراهم، وفي كلّ مكان.

خرج الرجل مصابًا جسديًّا فضلًا عن مقتلته النفسية، وهو محاصَر بمكانٍ يحاصره، وبذكرياتٍ لا تفتأ تحيط به، ليجد في الدوحة استراحة محارب، ومتنفَّسًا، بعدما اختنق حلقه بأطنان من البارود والكلمات الباحثة عن منفذ، وكان كلّ أملي أن يُمنح تلك المساحة الخاصة جدًّا، التي تليق بمصابه الكبير جدًّا، فلا يُحاط إلا بالقريبين من أهله وأصدقائه وزملائه.

بالتأكيد لستُ متحدّثًا باسم الرجل، ولا أملك حق الحَجر عليه، لكنه حديث الجمهور إلى الجمهور، والعامة إلى العامة، أفكر بصوتٍ مرتفع، لو كنت هناك بالقرب منه، ساكنًا بجواره، أراه وألتقي به ولو لمامًا لثانيتين، ماذا كنت لأقول؟ بماذا كنت سأخبره؟ كيف كنت سأقابله؟ إلا من خلال كلمات محدودة، موءودة من العجز على شفا ثغري، تصبّره بالله، وبالجنة، وبالعوض الكريم، ثم أمضي، لأدخل بوابةَ حزني الخاصة، منفجرًا بالبكاء، أنّي للتوّ رأيتُ معجزةً نجت من مذبحة، أنّي رأيت شهيدًا محتملًا وقد بات نسبيًّا في مأمن، بعيدًا عن القصف والصخب والدمار.

خرج من غزّة، يتفقّد الحياة حوله، ينظر في الأجواء، يحاول أن يصدّق أنّ هذه الدنيا فيها شيء غير الموت من كلّ جانب

هل كنت سألتقط معه صورة؟ لا أعتقد، ليس لأنّني لا أحبّ التباهي بالرموز على مدى حبّي لهم، ولكن لأنّ ذلك الوجه، تلك المشاعر والملامح، في تلك الصورة، التي سيبذل جهدًا إضافيًّا في رسمها، وتمثيلها، حتى لا يبدو على حقيقته المفجعة تمامًا، لا أتحملها، يكفي الرجل ما مثّل وتماسك طيلة أشهر من النزيف، ومن الحزن، ومن الوجع، ومن الجراح، فمن أنا لأذهب وألتقط معه الصور بلا داعٍ، ولآخذ معه اللقطة؟ ذلك الإنسان الأيقونة الآن شيء مهيب، ليس من باب صنع هالةٍ حوله، وهو أحق أهل الأرض بها، وإنّما لأنّ هالة الحزن عليه أكبر، وأهواله أشدّ، لا تتحمل فلاش الكاميرا!

في المتحف سيخبرونك بمنع التصوير لبعض التحَف، لأنّ الإضاءة الصادرة من فوق العدسة قد ترهقها، وتضرها، وتسيء إليها مع الوقت، قد تسبّب لها جرحًا أو خدشًا أو ضررًا بواجهتها، فحتى المنحوتات لها هيبة ووقار ومساحة، فكيف لا نعطي "إنسانًا" تلك المساحة نفسها من التوقير والتبجيل واحترام المصاب؟ هل صورتي هي ما ستؤكد على وصولي إلى حدّ وائل الدحدوح؟

لا أشكك أبدًا في النوايا الطيبة لكثيرين ممن يحبون أن يوثقوا تلك اللحظة للقاء رجل بمثابة حلم من خيال، ولكن أفكر بصوتٍ مرتفع، حين أحاول وضع نفسي هناك، مكانه أو أقل بكثير، سأجدني لا أقوى على ذلك، بينما يحاول هو بأدبٍ جمّ أن يلقى الجميع، العابرين والمارة، دون أن يكسر أحدًا، بينما هو ذاته، مكسورٌ داخليًّا حدّ التهشّم، وهم لا ينفكّون عن معاملته كتمثال لا يشعر، دون الخصوصية حتى التي تُحاط بالتمثال، ليحوّلوه في مخيّلاتهم وكادرات صورهم إلى "نصب" تذكاري، بدلًا من كونه إنسانًا، مقاتلًا، نجا للتوّ، (شكليًّا) من ألفِ موتٍ كبير!

مشاركة الخبر: وائل الدحدوح.. لا تحوّلوا المأساة إلى نصب تذكاري على وسائل التواصل من نيوز فور مي

local_library إقرأ أيضاً في آخر الأخبار

بدور القاسمي الكتب توحدنا فى نسيج إنسانى عالمى متعدد الثقافات

بدور القاسمي الكتب توحدنا فى نسيج إنسانى عالمى متعدد الثقافات

منذُ 11 دقائق

أكدت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب والمؤسسة والرئيسة التنفيذية لمجموعة كلمات...

هل تراجعت كتب التنمية البشرية ناشرون يجيبون

هل تراجعت كتب التنمية البشرية ناشرون يجيبون

منذُ 11 دقائق

تعتبر كتب التنمية البشرية من أهم الكتب التي يتم تقديمها للقراء ومحبي ذلك النوع من الأدب حيث أنها تعمل على تلبية...

تقنين أوضاع العاملين بمجال إدارة المخلفات والحاصلين على التدريب ودمجهم فى القطاع الرسمى

تقنين أوضاع العاملين بمجال إدارة المخلفات والحاصلين على التدريب ودمجهم...

منذُ 11 دقائق

أطلقت الدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة فعالية كبرى بحضور كلا من الدكتورة نيفين القباج وزيرة التضامن الإجتماعى واللواء ...

تزامنا مع أجازة نهاية العام  مطار سوهاج الدولي يستعد لإستقبال عودة المصريين العاملين بالخارج من أبناء الصعيد

تزامنا مع أجازة نهاية العام مطار سوهاج الدولي يستعد لإستقبال عودة الم...

منذُ 11 دقائق

تماشيا مع توجهات الحكومة المصرية لتنمية مدن صعيد مصر وفي ضوء اهتمام وزارة الطيران المدني بتقديم كافة التسهيلات...

أوكرانيا تدمر كاسحة ألغام روسية وموسكو تسقط 60 طائرة مسيرة
أوكرانيا تدمر كاسحة ألغام روسية وموسكو تسقط 60 طائرة مسيرة
منذُ 13 دقائق

أعلن الجيش الأوكراني اليوم الأحد تدمير كاسحة ألغام روسية في البحر الأسود فيما أكدت وزارة الدفاع الروسية أنها أسقطت...

ما مصير الرئيس الإيراني عربي21 تتابع تطورات البحث عن طائرة رئيسي لحظة بلحظة شاهد
ما مصير الرئيس الإيراني عربي21 تتابع تطورات البحث عن طائرة رئيسي لحظة ...
منذُ 13 دقائق

اختفت طائرة كانت تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومسؤولون آخرون بينهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بعد هبوطها...

widgets إقراء أيضاً من العربي الجديد

غزة أزمة شح المياه هي الأكثر إرهاقا للسكان
اليمن في العتمة نصف السكان يعانون من فقر شديد في الطاقة الكهربائية
الشرطة الإسرائيلية تحييد شاب شرقي القدس حاول طعن أحد أفراد الشرطة
الحرب على جبهة لبنان| 4 شهداء لـحزب الله وسط تصعيد إسرائيلي