منظومة الترانسفير ونقطة اللاعودة

تتضح معالم القضية الفلسطينية أكثر فأكثر لتأخذ شكلاً أكثر دقة وموضوعية، لنعايش واقعاً ومستقبلاً مختلفاً عمّا كانت الصورة النمطية عليه، حيث يتراجع الغموض وتتقدّم الحقائق، فهذا وقت الإجابات لا وقت التساؤلات.

إنّ القضية الفلسطينية تتموضع الآن بقالبها التحرّري الرافض لكلّ أنواع الحلول الركيكة، فإمّا مسار سياسي حقيقي يقود إلى إنجاز على الأرض، وإما الاستمرار في مربّع الأزمات المتتالية واللامتناهية، ففلسفة إدارة الصراع أثبتت فشلها على المدى البعيد والاستراتيجي، لأنّها فلسفة تقوم على تضليل الحقيقة واجتثاث معالم الصراع الرئيسية وقضاياه الجوهرية، فالعالم بات مُدركًا تمام الإدراك أنه لا حلّ حقيقياً للقضية الفلسطينية إلا بإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة كاملة.

وداخل المشهد الإسرائيلي تتوحد رؤية الساسة حول كيفية التعامل مع الفلسطينيين والصراع، فهناك حالة من الإمعان في إحكام القبضة الحديدية على كل ما هو فلسطيني، فضلاً عن العمل على شرذمة أوصال البلاد وإحداث التغيير الديمغرافي والإحلال الذي هو الهدف الإسرائيلي الأسمى. وهنا يشكل العامل الديمغرافي مسألة قلق لإسرائيل، ولذا تعمل على تفتيت عوالم الفلسطينيين وقطع أوصال الترابط فيما بينهم وتحطيم كيان ديمغرافيتهم. نحن إذن، أمام حالة إمعان واضح في فصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية وعن فلسطينيي عام 1948، وعن الشتات، فالفصل الجغرافي والديمغرافي من أهم خطط الحسم الآن ضد الشعب الفلسطيني، خصوصاً أنّ إسرائيل تخشى من موتها ديمغرافياً على الصعيد الاستراتيجي، لأنّ الخزان البشري اليهودي في العالم قد نضب. ولهذا تُمعن إسرائيل في رفض كلّ الحلول الرامية إلى وجود دولة فلسطينية؛ فهذا يشكل خطراً استراتيجياً وجودياً مستقبلياً لدولتهم، وإذا تآكلت فكرة "حل الدولتين" ستعود المنطقة إلى المربع الأول، أي لعام 1948، لتصبح أفكار الفلسطينيين تنضوي تحت مظلة ضرورة وجود قيادة واحدة مشتركة للشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر.

ولعل مجمل الأمور والفلسفات، وحتى مناقشة اليوم التالي للحرب، ستعمل على إعادة وضع الأمور في سياقها الدقيق، وإعادة تعريف العديد من القضايا من جديد، حيث ستتموضع القضية الفلسطينية في أنّها تواجه استعماراً استيطانياً إحلالياً، بدأ يتشكل من خلال منظومة الترانسفير ضد السكان الفلسطينيين الأصلانيين ودثر وجودهم عام 1948، ولذلك تعتبر إسرائيل أنّ هذه المناطق حق لها لا جدال فيه، فهي إذا استوطنت المكان، وألغت وجود السكان الأصليين في الحيّز المكاني المُزمع استعماره، ومن ثم أقامت دولتها على حيّز مكاني وزماني فيه حسم ضد الشعب الأصلي، وتحصلت على اعتراف دولي، بسيادتها على ما يُقارب 78% من مساحة أرض فلسطين التاريخية، وفي أفضل الظروف والمعطيات الدولية والعالمية، فإن الدولة الفلسطينية التي يعترف بها القانون الدولي هي على مساحة 22% من مساحة أرض فلسطين التاريخية.

ولعل نموذج الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هو ببساطة نموذج شامل لكل فلسفة الاستعمار الاستيطاني بِرمته، فهو يحتوي على الترانسفير والاستئصال والمحو والإحباط الديمغرافي والاحلال والابارتهايد والاستيطان والصيرورة على الإيغال بالدم دون تورع، فهم أقاموا دولتهم على أشلاء الفلسطينيين وويلاتهم، فهو نموذج عنوانه الصيرورة على الحسم ضد الشعب الأصلاني بالبلاد في كل زمان ومكان، ولعل ما يحدث في قطاع غزة حقيقة ماثلة لمن يريد أن يرى، وكذلك تنتهج إسرائيل بالإضافة إلى عقيدة المحو، عقيدة الاستعمار الاستغلالي على مبدأ إدارة الكتلة الباقية من السكان الأصلانيين، فعند عام 1948 كان الترانسفير سيد الموقف.

يصدح الساسة الإسرائيليون مراراً وتكراراً برفضهم قيام دولة فلسطينية، ورفضهم فكرة حل الدولتين، والإمعان في تجنب الخوض في جدالات الحلول الدائمة والجذرية لأن أي حل فيه تنازلات

وعقب عام 1967 كان تشويه معالم ما بقي من السكان الأصليين وإخضاعهم والتحوير في مكنوناتهم وهندستهم هو سيد الموقف، فهم انتقلوا من الترانسفير والتطهير إلى الابارتهايد وكيّ الوعي بحق ما بقي من سكان أصلانيين.

كما ويتم في سياق الاستعمار الاستيطاني تصوير السكان الاصليين على أنهم همج، فَوزير الجيش الإسرائيلي مثلاً أوجد مسوغاً من أجل إحداث إبادة جماعية ومجازر في غزة بأنه يقاتل ضد "حيوانات بشرية"، فهو نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وبالتالي بات يُبيح قتلهم وارتكاب المجازر بحقهم، وهذا مع الإمعان في تكثيف الخطاب الاستعماري الاستيطاني القائم على العنصرية الاقصائية وليس فقط على النظرة الاستعلائية؛ لأن الاستعمار الاستيطاني في هذا السياق لا يرى أن هناك ثنائية على الإطلاق، بل يرى أن هناك سكاناً أصلانيين متشرذمين منزوعاً عنهم صفة الآدمية ومن البديهي والطبيعي إبادتهم والحسم ضدهم وفقاً لكل آليات الحسم التي تتلاقى مع فلسفة الاستيطان الاستعماري بصفته منظومة متكاملة ومُمأسسة وليست حدثاً عابراً.

 ومن هذا المنطلق يصدح الساسة الإسرائيليون مراراً وتكراراً برفضهم قيام دولة فلسطينية، ورفضهم فكرة حل الدولتين، والإمعان في تجنب الخوض في جدالات الحلول الدائمة والجذرية، لأن أي حل فيه تنازلات بالنسبة إليهم يتنافى مع عقيدة الحسم ضد الشعب الأصلاني، ويدحض روايتهم.

فمسألة نقاش اليوم التالي للحرب في غزة ليست فقط مسألة غزة؛ بل هي مسألة مناقشة اليوم التالي لكل معالم القضية الفلسطينية برُمتها، وكل قضايا الصراع، هذا ما يتطلب رغبة حقيقية بحل الصراع، وليس الإمعان في الإبقاء على فلسفة إدارته. ففي فلسفة تقليص الصراع، أقصى ما هو مُستهدف، وفي أفضل الظروف، إقامة كيان فلسطيني مشوَّه بمثابة دولة من "كنتونات"، وتكثيف الاستيطان بكل أشكاله، وقتل كل ما هو تحرري فلسطيني، واستئصال الوعي، واغتيال الفكرة. حيث يتمحور تركيز العقلية الإسرائيلية، ولا سيما الأمنية، في تكريس مسألة مهمة على الساحة الفلسطينية، وهي مسألة يُشار إليها "بتقليص الصراع"، حيث يكون الهدف ضمن فلسفة تقليص الصراع إعطاء الفلسطينيين وهماً بالحرية، ووهماً بالسيادة، ووهماً ببناء الدولة، وهذا ما يقود إلى نمط جديد من أنماط الاحتلال، بحيث يصبح احتلالاً "حداثيّاً" يعمل ضمن آلية "يَرى ولا يُرى" وهذا لتكريس الوهم بالحرية والسيادة وبناء الدولة، أي إن أقصى ما هو مستهدف هنا هو المفاوضة على أعداد تصاريح العمال، لا المفاوضة على شكل الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة!

وفي هذا السياق يصدح الكل الفلسطيني بأنه لا يُريد أبداً قيوداً مريحة؛ بل يُريد إزالتها تماماً، فلا حل إلا بزوال هذا الاحتلال الإحلالي، لا بجعله أكثر مرونة.

مشاركة الخبر: منظومة الترانسفير ونقطة اللاعودة على وسائل التواصل من نيوز فور مي