الاتحاد العام التونسي للشغل والاختبار الصعب
مع إيقاف السلطات الأمنية كاتبه العام الجهوي في مدينة القصرين، يحشر الاتحاد العام التونسي للشغل في حجر الزاوية، وهو الذي لا شك أنه ساهم مساهمة بالغة، من دون أن يشعر، في ما انتهى إليه من وضع لا يُحسد عليه.
ظل اتحاد الشغل أكثر من عقد يعتقد نفسه أنه أقوى من الجمعيات ومن الدولة والأحزاب والمجتمع المدني. وكانت لهذا الاعتقاد مبرّرات، لكنها أخذته إلى غرور وصلف كبيرين. ولا أحد ينكر أن الاتحاد ساهم مساهمة كبيرة في الثورة، حين ضخّها بمظاهرات واحتجاجات عارمة عديدة اندلعت خصوصاً في الجهات بعيداً عن رقابة البيروقراطية النقابية التي كان يقودها آنذاك المكتب التنفيذي، وهو أعلى هيئة قيادية فيها، وكانت مظاهرة صفاقس التي دعا إليها الاتحاد حدثاً فارقاً في تاريخ الثورة.
كان الاتحاد بعد سقوط النظام فاعلاً سياسياً مصطفّاً وراء أحزاب سياسية بعينها، وقادته التوجهات المعلنة لقياداته اليسارية إلى اتخاذ مواقف سياسية حادّة ممن حكموا. حين أخفق اليسار في أن يكون منتخباً عبر صناديق الاقتراع، تسلّل إلى الاتحاد ليمارس السياسة بشكل آخر. أصدر الاتحاد تحت تأثير التحزّب المفرط لقياداته مواقف سياسية متشدّدة وعبثية، وخاض سلسلة من الإضرابات الوحشية في جلّ مرافق الحياة دون استثناء: الصحة، التعليم، الخدمات البلدية، بما فيها التنظيف والتطهير، حتى جثت البلاد على ركبتيها من دون رحمة. كان الاتحاد فوق المحاسبة، ومن يجرؤ على ذلك الغول الذي ترتعد له فرائص من حكموا؟ كانت تصريحات القيادات موغلة في التطرف، وعرقل هؤلاء أي قرار من شأنه أن يعيد إلى الإنتاج ديناميته المعهودة. تصدّرت مطالبهم الفئوية الضيقة أجندة الحكومات، ونالوا تحت الغضب اتفاقيات حظي بها منخرطو الاتحاد بزيادات غير مسبوقة في الأجور. كان ذلك أنانية فجّة صادرة عن اتحاد تغوّل على الدولة وقدم مصلحته الخاصة. كانت الأولوية مثلاً ستمنح لانتداب العاطلين من العمل أو تنمية الجهات المحرومة، ولكن تمسّك الاتحاد بتلك الأولوية، وهو يعلم جيداً أن خزينة البلاد تفرغ يوماً بعد يوم، وهو الذي أوقف النتاج كلياً في الحوض المنجمي.
أصرّ الاتحاد على أن يكون شريكاً للرئيس، من دون أن يعارضه في مواقفه
عرقل الاتحاد أي تشريعات تعيد النظر في قطاعات عددية على غرار التغطية الاجتماعية، التقاعد، المؤسسات العمومية، باعتبارها محرّمات لا تُناقش. ومع ذلك، حرص في كل الحكومات المتعاقبة على أن يكون له وزراء، وإن بشكل غير مباشر، وقد أمسكوا عادة وزارة الشؤون الاجتماعية، وهو الطرف الحكومي في المفاوضات الاجتماعية.
لا شك في أن للاتحاد دوراً مهماً في تجنيب البلاد الانزلاق إلى مربع العنف سنة 2013، حين قاد، مع غيره من المنظمات الوطنية، ما سُمِّي الرباعي الراعي للحوار الوطني، واستحق على جهوده أن يكون شريكاً في جائزة نوبل للسلام، رغم أن تصريحات قادته أخيراً تفيد بضمور وعيهم السياسي، حين يؤكدون أنّ تلك الجهود كان هدفها الرئيسي إبعاد حركة النهضة عن السلطة، حتى ولو وصلت من طريق الانتخاب.
وظلت قيادة الاتحاد تستعرض قوتها من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة أحياناً لأسباب تافهة، كإيقاف سائق اعتدى على مواطنة أو ممرّض رفض تنفيذ أوامر رئيس القسم في مستشفى عمومي. قاد الاتحاد حركة تمرد غير معلنة، إلى أن وصل التونسيون إلى 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021. اختار الاتحاد مساندة الرئيس قيس سعيّد، واعتبر أنه أراحهم من "العشرية السوداء" متناسياً أنّه قد ساهم في تخريبها، وقد ساعدهم في إدارتها أيضاً من خلال حضوره المباشر في أروقة الحكم. ومع ذلك، بدأت تصريحات قيادته اللاحقة تُحدث شرخاً بينه وبين الرئيس سعيّد، وهو الذي لا يرغب في أن يقاسم إنجازه أحد، كذلك فإنّه مصرٌّ على ألّا يكون له شريك في الحكم. ... كان سعيّد لا ينظر بعين الارتياح إلى الأجسام الوسيطة، نقابات أو أحزاب، فهي تشكل حاجزاً بينه وبين شعبه. أصرّ الاتحاد على أن يكون شريكاً للرئيس، من دون أن يعارضه في مواقفه، بما فيها التي انتهكت الدستور وحقوق الناس. كانت قيادات "الاتحاد" تتشفّى من خصومها الأيديولوجيين غير عابئة بأنّ الدائرة ستدور عليهم، وإن بعد حين. كلما اقترب الرئيس من الموعد الانتخابي الذي يتوقع أن يكون في أواخر هذه السنة، سارع في تفكيك الاتحاد وبقية الأجسام الوسطية الأخرى، وهو لا يريد أن يرى اتحاداً قوياً قد يشكل جبهة ممانعة. وقد كانت القرارات الخاطئة التي اتخذتها القيادة النقابية الحالية، على غرار تعديل الفصل الـ 20، الذي يبيح للمكتب التنفيذي الحالي التمديد في الولاية الانتخابية، حاسمة.
لا يريد سعيّد أن يرى الاتحاد التونسي العام للشغل قوياً قد يشكل جبهة ممانعة
انطلقت محاكمة النقابيين كلما ارتكبوا أخطاءً مهنية فادحة، بما فيها منع حرية الشغل، ويقف حالياً عشرات من النقابيين في السجن تحت طائلة هذا العنوان. كذلك عمد النظام بالتدرّج الى إيقاف التفرغ النقابي وإحالة القيادات النقابية على سالف أعمالهم، وربما الأرجح أن يُحاكم بعضٌ منهم بتهم جاهزة في ملفات تحت عناوين الفساد وغيره، والأرجح أن يمرّ الاتحاد، في هذه الفترة الباقية قبل الانتخابات، بفترة صعبة قد تحتدّ فيها المعركة بين الاتحاد والسلطة. سيكون التجمّع الكبير الذي دعا الاتحاد إلى عقده في مارس/ آذار المقبل محطة مهمة في تقدير موازين القوى، وتحديد مواقف الطرفين: الاتحاد التونسي العام للشغل والسلطة.
مشاركة الخبر: الاتحاد العام التونسي للشغل والاختبار الصعب على وسائل التواصل من نيوز فور مي