"أبولو غزة"... انتشال الإله الإغريقي من البحر
قبالة ساحل دير البلح في قطاع غزة في شهر أغسطس/آب عام 2013، وجد صيّاد غزّي، يدعى جودت أبو غراب، تمثالاً غريقاً. عند اللمحة الأولى للتمثال، ارتبك الصيّاد؛ إذ اعتقد أن التمثال غريق يمد يده لمنقذٍ ما. اقترب الصياد منه أكثر فأكثر، ليكتشف أنه تمثالٌ متقن الصنع. بمساعدة مجموعة من أقربائه، نقل أبو غراب التمثال الذي يزن 750 كيلوغراماً إلى منزله على متن عربته التي يجرها حمار. استمرت عملية النقل أربع ساعات.
فاق هذا الصيد توقعات الصيَّاد، ولم يفهم ماهية التمثال حتى استعان بقريبٍ آخر يعمل في صياغة الذهب. أكَّد له أن التمثال مصنوع من البرونز وليس من الذهب. بدأت حينها محاولات بيعه، وأدى ذلك إلى خلافات بين الأقرباء بسبب أحلام الثراء السريع. تسربت صورة غريبة جداً للتمثال مُلقى على ملاءة مطبوع عليها صور السنافر.
نعلم لاحقاً أن التمثال الذي وجد، هو تمثالٌ للإله أبولو ابن زيوس وليتو. انتشرت أخبار آلهة الشمس والضوء في كل أصقاع الأرض بسرعة فائقة، وتحركت المتاحف في العلن والقراصنة وشبكات التهريب في الخفاء محاولة، كلٌ حسب مصلحته، الحصول على التمثال. تلك الافتراضات المتناقضة والعنيفة التي قدمها العمل في القسم الأول، تؤدي دوراً رمزياً بتكريس ما تعنيه هذه المدينة في مخيلة الجميع.
التمثال مفقود منذ سنة 332 قبل الميلاد. أعاد ظهوره الإعلام إلى غزة. هذه المرة من زاوية مختلفة عن الحرب. اختفى التمثال بعد ظهوره بأسابيع قليلة، ويرجح بأنه في يد المقاومة، خبأته خوفاً عليه من السرقة أو القصف الإسرائيلي، خاصة بعد ثلاثة حروب مع الكيان الصهيوني. في عام 2018، وبعد أن طوت الصحافة القضية ولم يعد هناك من يذكر التمثال، أتى مخرج الأفلام الوثائقية السويسري نيكولاس فاديموف إلى مدينة غزة للبحث عن أبولو. عنوان الفيلم "أبولو غزة" يدل على قناعة المخرج التامة بأن التمثال مِلكٌ لغزة، ويبدأ استناداً إلى هذه الحقيقة بالتحقيق حول مصير التمثال، يقابل في البداية الصيَّاد الذي وجده وينتقل بين القدس وغزة، ليبدأ بنقاشات وتحقيقات وأسئلة طويلة مع شخصيات متنوعة حد التناقض.
الآراء والقناعات حول التمثال، تجبرنا على إعادة التفكير في كل تفاصيل الحياة والمجتمع والسياسة في ذاك الوقت. بعضهم يعتقد أن بدو مصر هربوه عبر سيناء، وقبل أن يُقبض عليهم رموه في البحر. بعضهم الآخر يقول إنه مزور، وآخرون مختصون في الآثار يؤكدون أنه حقيقي. للجميع حججهم المستندة إلى خلفيتهم الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية.
بدأ المخرج بمفاوضات مع الحكومة في غزة، إذ طلب التمثال لعرضه في متاحف فرنسا أو جنيف مؤقتاً، وإعادته لاحقاً. حينها، رد عليه وزير الآثار والمتاحف في غزة: "لدينا أكثر من عشرة آلاف قطعة أثرية، ونحن مهتمون في عرضها شرط توافر مكان آمن وضمان لعودة القطع". بعيداً عن المقابلات والآراء المتضاربة حول التمثال، يتنقل المخرج بوعي العارف بالمكان بين دير البلح ومخيم الشاطئ وبيت حانون وغيرها. وبين المقابلة والأُخرى، فواصل سينمائية تتمثل بكادرات توثق حال مجتمع ومدينة. يظهر لنا طيور في الأقفاص، أو قطط محاصرة، وشبان مثقلون بالهموم يجلسون على الشاطئ وكأنهم في نزهة داخل السجن.
هذه الزيارة إلى غزة لم تكن الأولى للمخرج. وفيلم "أبولو غزة" آخر فيلم في ثلاثيته عن فلسطين، بعد فيلميه "قفازات عكا الذهبية" و"عايشين"، قبل دخوله عالم الإخراج كان فاديموف مراسلاً صحافياً غطى الانتفاضة الأولى في بداية مشواره المهني، وانتقل بعدها إلى اليمن وبوركينا فاسو ورواندا وليبيا والأردن.
كيساري، يناضل فاديموف في القضايا العالمية والمحلية بنفس الروح والهمة والنشاط. دخل في تجارب توثيقية كثيرة، بمجملها تنحاز للمحرومين واللاجئين، وقصص المضطهدين، بإظهارهم أمام عين المشاهد بعد إذابة الحدود بين الأداء الواقعي والعفوية وبين الخيال والوثائقي.
على أرض فلسطين التاريخية، مرت حضارات عمرها أكثر من 5000 سنة، وما زالت آثارها تحت رمال غزة. الفراعنة والرمانيون والبيزنطيون والصليبيون، جميعهم مروا من هنا، الإسكندر الأكبر حاصر المدينة، وزارها هادريان قيصر روما، جميعهم مروا من أرضنا ورحلوا.
مشاركة الخبر: "أبولو غزة"... انتشال الإله الإغريقي من البحر على وسائل التواصل من نيوز فور مي