ما الذي يجمع فيروز وزوربا؟
لا يمكن أن تقول إنك لا تحبّ فيروز، أو أم كلثوم، وإلّا نالت منك شرطة الرّموز، فالحبّ في هذه الحالة واجبٌ ولو بالإكراه. فلا أحد يقبل أن تخرج من سياقٍ يحبُّ اسماً، وإلا فأنت مُدّعٍ أو رديء الذّوق، ولا أحد يجرُؤ على معارضة حبّ الأغلبية رمزاً. رغم أن الأذواق تنمو في البيوت التي وُلدت فيها، ولا يمكن شرح الفن أو الحب والجمال. إنها أشياء تدلّ علينا، ولا يمكن فرضها، لهذا لا بد من كسر دكتاتورية الحب بالإجماع.
لم تعد لي قدرة على سماع عبد الحليم حافظ، بعد مرافقته مرحلة الإسهال العاطفي التي مررتُ بها في المراهقة. لم أعد أستمع إلى فيروز، لسببين: الأول بعد أن فشلتُ في إيجاد لحظة ضعف في صوتها، وأنا أحبّ الضّعف بقدر القوة، كلاهما مصدر جمال وشعر. والثاني، عندما أدركتُ أنني أحبّ الولع في الغناء، فصرتُ أحبُّ أم كلثوم بعد أن كنتُ أهجرها. لكني لا أنسى أن أمتعض منها، امتعاض المحبّين، لأنها تتطرّف أحياناً في مشاعرها، وأنا في حالة لا تقبل الاستنزاف العاطفي للأغاني العربية الكلاسيكية. لا أحبُّ صوت عبد الوهاب الدكالي، ولم أجد بعد طريقة لفهم عبقريته اللّحنية التي أسمع عنها. وأنتشي أحياناً بأغاني "ناس الغيوان" كما لا أفعل مع آخرين، حتى وإن كنتُ مغرمةً بـ "كناوة".
أحبّ إيلا فيتزجيرالد، لأن في صوتها امرأة أحبُّ أن أكونها، وغراماً أحبُّ أن أعيشه. ولا أحبّ أديل بسبب تزامنها مع أزمة مررتُ بها، بعد جلسة عملٍ في ظلّ صوتها. حينها انتابني شعور سيئ تجاهلته، وكان لخذلان حدْسي ثمن رهيب.
لا أحب مارلون براندو بسبب فيلم "ليلة التانغو الأخير في باريس"، الذي اغتصب فيه البطلة ماريا شنايدر في مشهد اغتصاباً حقيقياً. أحبّ ميريل ستريب، كما أحبّ شخصيات روائية، كزوربا أو سعيد في "حكاية بحّار" لحنا مينة أو سكارليت جوهانسون في "ذهب مع الريح"، كما أحبّ البنفسج والتوليب وأنواع الورد الأبيض كله. أحبّ جورج كلوني كما هو، وفي كل ما يفعله. أحبّ ليوناردو ديكابريو الممثل، كما لا أحبّ ممثلاً آخر. أنفر من نيكول كيدمان وساندرا بولوك بعد لمسات البوتوكس شفاههما.
لم أعد أحبّ هابرماس بسبب موقفه أخيراً من الحرب على غزّة. لم أستسغ محمّد شكري لأسباب تتعلق بعلاقته مع الآخرين، وقدرته على امتصاص طاقاتهم من أجل الإبقاء على وهج حضوره. أحبّ بيكاسو ولا أحبّه، أحبّ عمله ولا أحبّ شخصه، رغم أنه كان شخصية رئيسية في رحلتي إلى باريس. أحبّ رقّة شاغال رغم اعتراضي على نظرته إلى الأشياء والناس.
أحبّ الطبخ من أجل الاستمتاع بوجبة حقيقية بطعم أصيل، لكني أكره كل الفوضى التي يُحدثها، وفكرة أن عليّ ترتيبها بعد الانتهاء من الطبخ. أحبّ السفر لكني أكره عذابه وقلقه، وثقل الحقائب وماراتون تحضير كل شيءٍ من أشياء حياتي.
أحبّ روايات أوروبا الشرقية، أكثر من أوروبا الغربية، وأدب أميركا الشمالية أكثر من اللاتينية. أحبّ الشاعر رامبو، وشعر بودلير، والشاعرات أكثر من الشعراء، والروائيين على حد سواء مع الروائيات. أحبّ شعر مارينا تسفيتافيا أكثر من شعر آنّا أخماتوفا، لكني أحب آنّا أكثر. لا أعرف إن كنت أحبّ أولغا تشوكارتوك أو فيسوافا تشومبوريسكا، أو فيتولد غومبروفيتش أو بولندا كلها.
لا أعرفُ إن كنتُ أحبّ أكثر، السهر ليلاً والناس نيام، أو رائحة الهواء الصباحي وطراوته ونقاءه من أنفاس البشر؟ أحبّ الفرح، لكنني أكره الأفراح. أحبّ الألوان القوية، وضجيج العين وصمتَ الأصوات. أحبّ أن تكون لي القدرة على إخراس العالم حولي، وحذف كثيرين ممن يمشون في الشارع معي، حتى لو كان يعني هذا أن أقضي الوقت في المحو، لكن تنظيف مجال نظري وسيلة مهمة للتهدئة.
أحبّ الموت أحياناً، لأنه راحة، وأحبّ الحياة بعدها، قبل أن تأتي الموجة التالية من اليأس. أحبّ "سكن الليل" من أغاني فيروز، العالقة في كل جزءٍ من خلايا حاسّة السمع عندي، حتى يسكن البال عن الحبّ، حتى لو لم أعد من جمهور فيروز، لكن الحبّ الجماعي القاسي يطارد ذاكراتنا. أو لعلّ الحبّ اختلط علينا، ولا ثقة في اختياراتنا كلها.
مشاركة الخبر: ما الذي يجمع فيروز وزوربا؟ على وسائل التواصل من نيوز فور مي