"الخيل" لـ مهند زعيتر ... ملامح الأغنية الشعبية الحديثة

تبدو ظاهرة مشاع التكنولوجيا من علامات الزمن الراهن. مراهقون في غرف النوم يخترقون عبر كومبيوترات الأهل أعقد الشبكات الإلكترونية لأكبر المصارف وأعتى المؤسسات الحكومية. مجموعاتٌ مسلّحة لا تتبع دولاً ولا جيوشاً نظامية، تخوض حروباً لا متماثلة، تُقلق بترسانة مسيّراتها، المجمّعة محليّاً، موازين القوى الإقليمية، وصولاً إلى الأغنية الشعبية التي مهما ازداد دنوّها من القاع، يظل بمقدور القائمين عليها مدّها بوسائل معالجة رقمية حديثة راقية، باتت في متناول أيّ منِتجٍ، داخل أيّ استوديو تسجيل، في أي مكان. 

ليست الوسائل فقط، بل الأساليب وأنماط التصميم الموسيقي. فلمن رغب وأراد وأبقى على ذهنه نضِراً وأذنه منفتحة، يكفيه أن يلج منصّة يوتيوب وأخواتها. بمواكبة ومن دون أي فارق حقبوي، فيضطلع من طريقها على أحدث الإنتاجات العالمية، ويستوعب الكيفية التي يجري بها التأليف والتوزيع، سواء بالاستماع والاستلهام المباشر، أو بوساطة مؤثرين يوتيوبيّين، يشرحون ويحلّلون أسرار الصنعة الفنية المستجدة وخفاياها، بالمجان في غالب الأحيان.

أغنية "الخيل" التي صدرت أخيراً للمغني الشعبي مهند زعيتر، وقد بلغت مشاهداتها إلى الآن سبعة ملايين، عيّنةٌ على الزمن الموسيقي الجديد الذي لم تعد له هرمية حقيقية، كانت تؤمن في ما مضى حدّاً أدنى من اتساق الشكل مع المضمون. الأغنية التي صُوِرت على شكل فيديو كليب، تنمّ عن جودة تصميمية وحذق إخراجي لافت، لا تقف عند حسن توظيف الوسائل التكنولوجية المتاحة مشاعاً، بل تكشف أيضاً عن نظرة عصرية إزاء كيفية صياغة الأغنية وسبل قولبتها بأساليب جديدة مبتكرة، أقلّه عربياً.

يقف وراء تميّز "الخيل" مؤلّفها وكاتب كلماتها كارل حسين والمنتج الموسيقي "الرزق". كلٌّ من الفتية الثلاثة، حسين والرزق وزعيتر، يُجسّدون الجيل الأجدد على الساحة الفنية، الذي لم يعد ينظر إلى الغناء الشعبي بوصفه هبوطاً وانحداراً واندثاراً للطبقة الوسطى بمعاييرها الفنية والثقافية، بل هو تعبيرٌ صادقٌ أصيل عن نبض عموم الشارع ومزاج السوق الفنية. تراهم ينفتحون عليه ويستثمرون في خصوصيّاته المحلية بهدف طرح موسيقى جماهيرية تجارية عصرية، تجمع ما بين الطابع الشعبي والإلكتروني والبديل، تُحاكي مزاج الشريحة العمرية العربية الأصغر سناً، أي جيل "زي".
  
يقدّم كارل حسين نفسه من خلال لقب مؤلّف (Composer)، لا مُلحّن كما اقتضت العادة. لا يصبّ اللقب فقط في غاية إحداث تقليعة أو تقليد مصطلحات أجنبية، بل يدلّ على تبدّل في وظائف صانع الأغنية. في السابق، كان الملحّن يضع لحناً للقصيدة، بواسطة العزف في الغالب على آلة العود، مراعياً وزنها ومعناها، مُشكلاً قالباً بحسب الأنماط الغنائية التي أرست تقاليد وأعرافاً. في ما بعد، أخذ الملحنون في بعض الأحيان يضطلعون بمهمة توزيع الأغنية على الآلات المتنوعة، أو أوكلوها إلى متخصّصين في التوزيع.

أما اليوم، فيمارس المُلحّنون الجدد، كأمثال حسين، ما يُمكن تسميته التصميم الموسيقي، عبر امتلاكهم وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تشمل تقنيات التصميم الصوتي (Sound Design)؛ أي تركيب الأصوات والمؤثرات السمعية إلكترونياً، وتشكيلها في الفراغ الصوتي ثنائي القطبية السمعية (Binaural) أي عندما يتجوّل الصوت بين الأذنين صدوراً وأفولاً، ابتعاداً واقتراباً، خصوصاً إن حصلت عملية الاستماع عبر سماعات أو عدد من مكبرات الصوت، وتلك هي الحال العامة في عصر المحمولات من لوائح حاسوبية وجوّالات. بالإضافة إلى تلوين الصوت اصطناعياً بإدخال التعديلات الموجية والتأثيرات الرقمية، بواسطة تطبيقات برمجية على الكومبيوتر.

 
لا يقف دور تلك الأدوات العصرية عند طبيعة المحتوى الصوتي للأغنية الجديدة، بل يتعداها إلى تغيير القوالب المتعارف عليها. تُستهل "الخيل" بارتجال منفرد على غيتار كهربائي يؤدي لحناً يحوي بُعيدات، أي "عُرباً" من ربع تون، بأسلوب شرقي تركيّ الهوى، على الموضة التي ما انفكت تشيع على مدى العقدين الأخيرين.ينتظم ارتجال الغيتار بغتةً وبسلاسة لافتة على إيقاع من أربع ضربات قريبٍ من نمط "الهجع" الشائع في الموسيقى الصوفية، على الأخص في منطقة الأناضول.
 
ليس ثمة من مذهب وكوبليه متباينين متنافرين سواء في الطابع أو في البنيان، وإنما توكل مهمة التمايز بين الأقسام إلى حَشوات الموسيقى الصرفة، التي صُمّمت على شكل ارتجالات آليّة مُرسلة لأنواع مختلفة من صوت آلة الغيتار الكهربائي، يجري وصلها وتطبيقها بمؤثرات إلكترونية وأكوستية. كذلك حال القناطر الغنائية، إذ يجري تركيبها عبر التلاعب بطبيعة صوت المغنّي على نحو غير مألوف في الإنتاج الموسيقي العربي، حيث يُسحب خارج بيئته الصوتية (Ambient Sound) لبرهة (ثانية 0:43)، ليُعزل عن صداه، ثم يُعاد إليها من جديد مع بدء المقطع الغنائي التالي.

تُضاف وسائل أخرى بغرض إشباع المحتوى والتعويض عن الرتابة المترتبة على تكرار ذات المذهب، جلّها صناعي. لأجل تسخين الأغنية مثلاً، تُضاف تدريجياً تراكيب إيقاعية تتصاعد في مدى الكثافة والتعقيد، تتمّ برمجتها رقمياً. كذلك تستورد الخُدع الصوتية التي يعتمدها موسيقيو التكنو في إدارتهم الإسطوانات، أو ما يُعرف بتقنية "الخلل الفني" (Glitch Technique) حيث تُسرَّع أو تُبطَّأ الموسيقى عمداً، أو يُتعمّد تقديمها إلى الأمام أو إعادتها إلى الوراء، واللافت في "الخيل" اقتران التلاعب الصوتي بتلاعب بصري - زمني ضمن الفيديو كليب المصوّر (دقيقة 1:48)، بنهج يذكّر بإنتاجات موسيقى الراب والهيب والهوب.

ولعل موسيقى الهيب هوب والراب مصدر الإلهام الرئيسي، ليس لصُنّاع الأغنية الشعبية الجديدة فقط، بل لمؤدّيها أيضاً؛ وإن غنّى زعيتر على الطريقة الشعبية وبلهجة هجينة بين ألوانها المحلية في عرض الإقليم الشامي، من جبال المتوسط الساحلية إلى شرق الفرات والبادية السورية العراقية، فإنه من خلال الشخصية التي جسّدها ضمن الفيديو، يظهر كأحد نجوم الراب، يفيض فحولةً، يكيل اللكمات لكيس رمل جلدي داخل مرأب سيارات معتم، في مشهد يبدو وقد اقتصّ من أحد أفلام الجريمة الأميركية (Film Noir).

والتماهي بجنس الراب إنْ موسيقيّاً أو ثقافيّاً، وحتى اجتماعياً، لا يبدو صدفةً عشواء، بل يمكن تسييقه ضمن المشهد الراهن في المنطقة الناطقة بالعربية، حيث تبدو ذائقة القاع، أي الطبقة الاجتماعية الدنيا التي هُمِّشَت طويلاً، والتي باتت تعاني اليوم حال فصام بين الغنى الفاحش والفقر المدقع وفي ذات الوقت، تمتلك مدخلاً واسعاً إلى التكنولوجيا بحُكم مشاعها، هي السائدة والقائدة. 

مشاركة الخبر: "الخيل" لـ مهند زعيتر ... ملامح الأغنية الشعبية الحديثة على وسائل التواصل من نيوز فور مي