حين يأتي الخبز لأطفال غزّة في سلّة المنام

يسأل أحد الصحافيين الذين تنقل كاميرات هواتفهم ملامح المجاعة المخيّمة على غزّة طفلة عمرها خمس سنوات: كيف البابا بيجيب لك الأكل؟ 

- بابا في الجنة.

- ليش زعلانة إيش ناقصك؟ احكي لي..

- ناقصني كل شي.. 

-إيش قوليلي؟

- وبنبرة محتقنة بالدمع، تردُّ: اشتقيت للخبز.. الأبيض. اشقيت لكل إشي.

بعد القنابل والخراب والدماء والأشلاء، ها هو الجوع يفتك بالمدنيين أيضًا. تلك هي أحد الأسلحة التي يتعمّدها الحصار الخانق على غزّة. ولذلك لا تترك حكومة بنيامين نتنياهو المتطرّفة أيّة وسيلة قتل وتعذيب إلا وتعتمدها في مسلسل الإبادة والتهجير. يبدأ الحرمان من الطعام إذاً، كأحد مخطّطاتها، بنهش أجساد الأطفال أوّلا، فيتضوّرون أمام العالم جوعًا. إنّه الجوع اللّعين، كعنكبوت لامرئي خفيّ يمتصُّ من الجسد الضئيل رحيق الحياة ونضارتها، فيتركه كومة من جلدٍ على عظم؛ مع نظراتِ انكسارٍ مستسلمة جاحظة أمام مصير موتٍ محتوم. 

لقد رأيت طوال هذا الأسبوع من صور الجوع في غزّة ما لا يمكن وصفه بكلمات. يسأل أب فقد ابنته بسبب نقص التغذية: أين العرب والعالم والحكومات الديمقراطية؟ سؤال استنكاريٌّ عدميٌّ في الريح لا جواب له. 

في غياب الحليب لا يعيش الرّضع أبعد قليلا من صرختهم الأولى

لا أحبّذ عادة النظر إلى صور الألم والمعاناة (خصوصًا تلك التي تصنعها الصراعات والحروب بشهيّتها المفرطة للعبث بمصائر الناس وتعطشها للدم) فيما أنا على الطرف الآخر، لا أستطيع أن أقدّم أيّة مساعدة صغيرة في الإمكان، أو حتى أن أناول تلك الصبية البريئة قطعة خبز أبيض من على تلك المائدة؛ لكنّي أعيش بكلّ أعصابي تلك التفاصيل على الشاشة، من حين لآخر، حتى أرشو توازني النفسي في كوني لم أتخلّ عن مقاسمة الناس آلامهم بتجرّع بعض المرارة والقلق، والخوف أيضا. فأكون بأضعف الإيمان حاضراً في قلب طاحونة العالم، ملامسًا كلّ جريمة يرويها الحاضر العبثي، ملامسًا إيّاها بالحواس والعقل عبر المشاهدة. لذلك أتابع أحيانًا لقطات من هذه المشاهد الموجعة، وأصلّي كي تتوقّف. لكنها تتكاثر كانقسام الخلايا السرطانية. تتكرّر وتتعدّد حاملة فصول تعذيب وحشي سادي يتفنّن في إيلام الضحية. 

يسأل أحد الصحافيين طفلًا آخر؛ صغيراً. أصغر من أن يعرف شيئًا عن هذه التراجيديا حوله: ماذا تريد؟ يجيب الطفل بما يجعل المعنى والأحاسيس تعزف معًا على أكثر من وترٍ رقيقٍ يدمع العين ويدمي القلب: أريد أن أنام وأحلم بأني آكل الخبز. 

يشتاق أطفال غزّة إلى الخبز، ويحلمون به في يقظتهم كما في منامهم. إنّه أعز مطلب في رحى هذه الحرب التي تدور الآن في بطونهم مثل ما هي حولهم وفوق رؤوسهم. يطلبون خبزًا ليعيشوا، ويكملوا هذه الحياة وإن بأعطاب في الرّوح والنفس والعقل. لا يريدون الآن أكثر من الخبز. لا أحلام لهم، ولا أفكار، ولا أماني، غير حنينهم إلى طعمه ورائحته ولونه. 

لا يريد أطفال غزّة اليوم أكثر من الخبز. لا أحلام لهم ولا أفكار ولا أماني غير حنينهم إلى طعمه ورائحته ولونه

وفي كلّ مكان من أطلالِ غزّة المدمّرة، نرى شبح الجوع المخيّم على أهلها. ملامح من الهزال والمرض واليأس والقنوط والغضب. "صوت المصارين الجائعة صار أعلى من صوت الرصاص والقنابل"، تقول امرأة تصنع من علف الحيوانات رغيفاً لأطفالها. رغيف حارق تلفظه المعدة سريعاً مع أعراض من الإسهال والحمى، وبذلك تزداد حالات الإصابة بالتسمّم، ناهيك عن حالات الوفاة للمصابين بالأمراض المزمنة. وفي غياب الحليب لا يعيش الرّضع أبعد قليلا من صرختهم الأولى. كما أنّ تأثير الجوع على الأطفال لن يتوّقف بوصول المساعدات الغذائية إن قدّر لها أن تصل؛ كما تعبّر عن ذلك مستشارة يونيسف لشؤون تغذية الأطفال آنو نارايان، حين تقول إنّه من المرجح أن يكون هناك "تأثير مدى الحياة" على بعض الأطفال، وتضيف: "نعلم أن الجوع يمكن أن يؤثر على النمو المعرفي لدى الصغار ويظل تأثيره مستمرا طوال العمر".

هذا ما خلص إليه أيضا باحثون من جامعة كاليفورنيا في بيركلي مؤخرا، من أنّ الأشخاص الذين ولدوا خلال المجاعة الصينية الكبرى قبل أكثر من 60 عاما، ثم أبناءهم وأحفادهم، بدت مناعتهم أقل للأمراض، بما فيها على الخصوص أمراض السلّ. 

لكن الاحتلال ترضيه هذه النتيجة، ولا تزعجه. فلا رادع يردعه عن قتل الأطفال وتجويعهم والتسبّب لهم في إعاقات دائمة. كما لا يحرجه ذلك أمام العالم الذي يتفرّج على مسلسل الرعب هذا، ساعة بساعة، ويومًا بيوم، إلى أن تكتمل قصة جحيم هذا الحصار وينغلق على المعنى الكامل للإبادة الجماعية بتفاصيل رعبه وقبضته الحديدية. تمامًا كما أراد نتنياهو وإدارته المتطرّفة، وكما عبّر عن ذلك وزير دفاعه يوآف غالانت حين نطق بلسان وحش يتكلّم: "إننا نفرض حصارا كاملا على غزة.. لا كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا غاز. كلّ شيء مُغلق".

مشاركة الخبر: حين يأتي الخبز لأطفال غزّة في سلّة المنام على وسائل التواصل من نيوز فور مي