محمود علي البنا  صوت كما الناي

محمود علي البنا ... صوتٌ كما الناي

تم نشره منذُ 2 شهر،بتاريخ: 17-03-2024 م الساعة 04:13:07 الرابط الدائم: https://newsformy.com/news-2043062.html في : اخبار سياسية    بواسطة المصدر : العربي الجديد

تكاد كلمة المهتمين بفن التلاوة أن تتفق على أن الميزات الأساسية في أداء القارئ المصري الشيخ محمود علي البنا هي الحُنو والرفق، والأداء الهادئ الرصين، والتجويد المنساب في تؤدة واطمئنان. فالرجل لا ينتمي إلى أصحاب الأصوات الجبارة، ذات المساحات العريضة، ويخلو صوته بالكلية من أي قدر من المعدنية، كما أن أداءه لا يحمل ذلك القدر الكبير من التعقيد الذي يجده المستمع في تلاوة الشيخين مصطفى إسماعيل وعبد الفتاح الشعشاعي مثلاً.

صحيح أن تسجيلاته القديمة تنبئ بأن صوته كان يتمتع بقدر أكبر من الجهارة واللمعان، لكن تسجيلاته بعد منتصف الخمسينيات افتقرت إلى ميزات القوة، لتحل محلها ميزات الدفء والعمق والاستواء المهيب على دكة التلاوة. وفي الإجماعات الجماهيرية كذلك، اتفق المستمعون على وصف صوت الشيخ بـ"الرخيم"، حتى تتواتر تلك اللفظة عند الحديث عن الرجل بدرجة استثنائية لا تتكرر مع قارئ آخر.

وبالرغم من عشوائية الأوصاف الشعبية والجماهيرية، إلا أن هذا الوصف تحديداً يأتي دقيقاً إذا ما أُطلق على صوت محمود علي البنا، فالرخيم وفقاً لعدد من القواميس العربية هو اللين، والسهل، والرقيق، والعذب، وسهل المنطق. ورخَّم المغني صوته أي سهله ولينه، وأرخمت النعامة على بيضها، أي حضنته. كذلك صوت البنا، يضرب بجناحيه على آذان المستمع، ويحتضنه برفق ولين، ثم يزداد جمالاً واختماراً بتلك "الخنفة" المميزة، التي قد تعد عيباً في صوت أي مطرب أو قارئ، فحوّلها الشيخ ميزة أساسية في صوته، تحبها الجماهير وتلتذ بها.

ظهر الشيخ محمود علي البنا في تلك الحقبة الذهبية المتسمة بالغربلة والفرز، إذ لم يكن ممكناً لقارئ أن يحقق شهرةً واسعة إلا إذا كان من تلك الطبقة الاستثنائية المنتقاة عبر "مرشحات" شيوخ القرية، ثم المراكز المجاورة، ثم عاصمة الإقليم، ثم القاهرة، بكل ما تعنيه من هيبة وازدحام بالأصوات الكبيرة، وكذلك بإذاعتها التي لم تكن تقبل إلا بالمستوى الرفيع من نخبة القراء الكبار المتميزين، إذ كان كل قارئ يمثل إضافة حقيقية مختلفة.

وفي حقبة لم تكن قد عرفت التسجيلات الإذاعية، كان الغناء والإنشاد والتلاوة والأذان كلها على الهواء مباشرة، حيث لا مجال للخطأ والتصويب والمراجعة والمونتاج. كان أقل قارئ من قراء الصف الثالث في تلك الفترة أفضل وأقوى من كل قراء (الصف الأول) الحاليين.

في هذا المناخ، ظهر محمود علي البنا. شاب صغير، يحتاج إلى أن يثبت وجوده وشخصيته بين أعلام كبار من طراز الشعشاعي، ومصطفى إسماعيل، وأبو العينين شعيشع، ومحمد عكاشة. لكنه أجاد وتفوق، وهضم تأثره ببعض معاصريه، لتخرج تلاوته طازجة بلا استنساخ ولا تقليد، رغم ما عرف عنه طوال حياته من قدرة كبيرة على المحاكاة، تلك القدرة التي كان يظهرها أحيانا على سبيل الدعابة في مجالس خاصة وضيقة، بعد أن تمرس بها صبياً، حتى يقول عن نفسه إنه كان قادراً على تقليد أي صوت يسمعه، ليس من القراء فقط، بل كان يقلد المطربين، وعلى رأسهم أم كلثوم وعبد الوهاب.

لكن قبل القاهرة، كان محمود علي البنا قد مر بمرحلة تأسيسية مهمة عندما رسب في اختبار الرياضيات، فقرر أن يتفرغ تماماً للتلاوة، ورحل من قريته شبرا باص في محافظة المنوفية إلى مدينة طنطا، ليدرس القراءات على يد شيخ شيوخها في المسجد الأحمدي إبراهيم سلام. قرأ الشاب على الشيخ سلام ختمة كاملة، قبل أن يبدأ في تلقي متون التجويد والقراءات. وبالطبع، كان لهذه المرحلة أثرها في توثيق علاقة البنا بمدينة طنطا والمسجد الأحمدي وجماهيريه الغفيرة.

امتلك الشيخ محمود علي البنا خامة صوتية نادرة، وطوعها لأدائه الفريد، فصار أسلوبه في التلاوة شديد الخصوصية، لا يصلح للتقليد أو المحاكاة. يبدأ تلاوته بقرار يتسم بالدفء والرقة، ثم يتصاعد على مهل إلى الطبقة الوسطى، التي تشكل الجانب الأكبر من تلاوته، قبل أن يصل إلى الجوابات، التي تأتي في حنو ورفق، لا سيما أن "خنفته" اللذيذة تزيد كلما تصاعد إلى مناطق أشد حدة، لكن عموم تلاوته تشير إلى أنه يفضل أن تأتي الجوابات متباعدة زمنياً، فالشيخ لم يكن من هواة "الزعيق" ولا الحدة الصوتية أو الأدائية، رغم جمال أدائه في هذه المساحة، حتى وصفه شيخ القراء أبو العينين شعيشع قائلاً: "صوته في الجواب كأنه ناي".

أحب الشيخ محمود علي البنا فن تلاوة القرآن، وتطلع منذ صباه إلى أن يكون "صييتاً" شهيراً، فأخذه طموحه منتصف الأربعينيات إلى القاهرة، حتى يكون قريباً من سهرات كبار القراء، من طبقة عبد الفتاح الشعشاعي ومحمد سلامة ومحمد عكاشة. كان يتتبع محافلهم في أحياء القاهرة، وينبهر بالمستوى الرفيع لأدائهم، ثم يعود إلى منزله ليبدأ محاولة استعادة ما سمعه من خلال ذاكرته القوية. حقق قدرا من الانتشار في منطقة شبرا، وفي أوساط رواد مساجدها، إلى أن التحق بجمعية الشبان المسلمين، وأصبح قارئها المنتظم. ثم لعبت المصادفة دورها حين نقلت الإذاعة احتفالا للجمعية عام 1948، فاستمعت الجماهير إلى الشيخ الذي لم يجاوز 22 عاماً، فكانت تلك التلاوة فاتحة الطريق إلى الاعتماد الإذاعي، وتحقيق الشهرة الواسعة.

لكن الإذاعة المصرية لها تقاليد صارمة، والقراء المعتمدون لديها مرتبون على فئات، أولى، وثانية، وثالثة، واعتماد شاب صغير مثل محمود علي البنا لا يعني أن يتساوى في أوقات البث مع القراء الكبار القدامى، فإذا كانت الجماهير ستستمع إلى الشعشاعي مرة كل أسبوع، فإنها قد تستمع إلى البنا مرة كل عدة أشهر.

وهنا، تلعب المصادفة دورها مرة جديدة. كان القراء الكبار من أمثال المشايخ أبو العنين شعيشع، وعلي حزين، وعبد العظيم زاهر، يتقاضون ستة جنيهات مصرية عن كل تلاوة، وكان الشيخ الشعشاعي -لسنه ومكانته- يتقاضى 12 جنيهاً. فوجئ القراء بخبر منشور في مجلة الإذاعة، يفيد بأن الشيخ مصطفى إسماعيل قد تعاقد مع الإذاعة مقابل 16 جنيهاً عن التلاوة الواحدة. أثار الخبر حفيظة القراء، ليقرروا مقاطعة الإذاعة، فكانت هذه المقاطعة سبباً لتكرار الاستماع إلى صوت البنا عدة مرات في الأسبوع، مدة شهر كامل. كانت هذه الواقعة سبباً رئيساً في اتساع شهرة الشيخ بسرعة استثنائية.

اختصر الشيخ الشاب مسافات طويلة، وأصبح رقماً مهماً على خريطة فن التلاوة المصرية، وطار صوته إلى البلاد العربية والإسلامية، فدعي للتلاوة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى والمسجد الأموي، وانهالت عليه الدعوات إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي، فقرأ وسط حشود كبيرة في إندونيسيا وماليزيا والهند، كما زار عدداً كبيراً من البلدان الغربية.


ورغم هذه المسيرة الغنية، إلا أن تسجيل الشيخ للمصحف المرتل مثل خطوة مهمة في تاريخه. جاءت الفكرة بطلب من الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن قرأ البنا في عزاء والد الرئيس، وفوجئ بأن ناصر يطلب أن يستمع إلى تلاوة مرتلة، وهو أمر غير معتاد في محافل العزاء في مصر.

بعد أسابيع، كانت الرئاسة قد رتبت كل شيء، وأتم البنا الختمة المرتلة الخامسة، بعد الشيوخ محمود خليل الحصري، ثم مصطفى إسماعيل، ثم عبد الباسط عبد الصمد، ثم محمد صديق المنشاوي. صار البنا واحداً من القراء الخمسة الذين تبث إذاعة القرآن الكريم في مصر ختمتهم المرتلة، بصفة دورية بلا انقطاع لسنوات وعقود.

أصبح المُقرئ جزءاً من الوجدان العام. وكما في تلاواته المجودة، اتسمت الختمة المرتلة للبنا برخامة الصوت، وهدوء الأداء وحنوه، كما تميزت عن نظيراتها بسرعة نسبية في إيقاعه.. وحرص الشيخ في تسجيله على المراوحة بين عدة مقامات موسيقية، حتى لا يدب الملل إلى نفس المستمع.

بعد أن قرأ الشيخ قرآن الجمعة في عدد من مساجد القاهرة، عُيّن قارئاً لمسجد الرفاعي، ثم نُقل ليصبح القارئ الأساسي لمسجد السيد البدوي في طنطا، التي عرفه جمهورها جيداً، وظل لسنوات عديدة يشارك في إحياء ذكرى أستاذة إبراهيم سلام التي تقام في المسجد الأحمدي، ثم توجت مسيرته بالتعيين قارئاً لمسجد الإمام الحسين خلفاً للشيخ محمود خليل الحصري، وبقي قارئاً للمسجد الأهم حتى رحيله في عام 1985.

في تجويده وترتيله، غزا الشيخ محمود علي البنا قلوب الجماهير، وامتلك وجدانهم بتلاوته المتسمة بالرفق والحنو والدفء والهدوء، مرسيا أسلوبا شديد الخصوصية، لا تستسيغه الجماهير إلا منه، ولا تقبله إلا بصوته. بدأ حياته بتقليد أداء كبار القراء، لكنه آمن أن التقليد مرحلة أولية، لا ينبغي أن تستمر أو تطول، ثم اختار لنفسه طريقته المتميزة، العصية على المحاكاة في تلاوة حقيقية وجماهيرية وإذاعية، لا في مجلس للسمر. لذلك، لم يبزغ قارئ يقلد طريقته، ولم يصل إلى الإذاعة صوت يحاكي أسلوبه، ليبقى الشيخ وحيداً فريداً. تتوالى العقود من دون أن تنسى الجماهير تلاواته المؤنسة الرفيقة.

مشاركة الخبر: محمود علي البنا ... صوتٌ كما الناي على وسائل التواصل من نيوز فور مي

local_library إقرأ أيضاً في آخر الأخبار

بالانفوجراف والفيديو الحصاد الاسبوعي لوزارة الزراعة

بالانفوجراف والفيديو الحصاد الاسبوعي لوزارة الزراعة

منذُ 53 دقائق

أصدر مركز المعلومات الصوتية والمرئية التابع لوزارة الزراعة واستصلاح الاراضي الانفوجراف الاسبوعي في نسخته رقم ١٩٥ حول...

وزيرة التعاون تعقد لقاءات مكثفة مع شركاء التنمية ورؤساء مؤسسات التمويل الدولية

وزيرة التعاون تعقد لقاءات مكثفة مع شركاء التنمية ورؤساء مؤسسات التمويل...

منذُ 53 دقائق

عقدت الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي ومحافظ مصر لدى البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لقاءات مكثفة مع...

الحصاد الأسبوعي لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني

الحصاد الأسبوعي لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني

منذُ 53 دقائق

أصدر المركز الإعلامي لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني التقرير الأسبوعي للوزارة خلال الفترة من الأحد 12 مايو...

أجواء شديدة الحرارة وأمطار في هذه المناطق

أجواء شديدة الحرارة وأمطار في هذه المناطق

منذُ 54 دقائق

توقع المركز الوطني للأرصاد الجوية والإنذار المبكر هطول أمطار رعدية على أجزاء من عدة محافظات وأجواء حارة إلى شديدة...

ارتفاع عدد الشهداء في غزة إلى 35303
ارتفاع عدد الشهداء في غزة إلى 35303
منذُ 54 دقائق

ارتفع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى 35 ألفا و303 شهداء و79 ألفا و261...

صنعاء بيان هام صادر عن وزارة الإتصالات
صنعاء بيان هام صادر عن وزارة الإتصالات
منذُ 55 دقائق

صنعاء بيان هام صادر عن وزارة...

widgets إقراء أيضاً من العربي الجديد

عبد الله نصيب من تجاوز الأزمات إلى كتابة التاريخ الآسيوي مع الأردن
بريطانيا تدرس تقييد صادرات الأسلحة إلى إسرائيل إذا هاجمت رفح بريا
16 مليار دولار من بلاكستون للاستحواذ على صندوق يدير أعمال شاكيرا
أسعار النحاس تشهد قفزات متواصلة ومخاوف في الأسواق العالمية