سنكتشف أننا كنّا شركاء في الجريمة
ما يجري في غزّة منذ 173 يوما كارثة إنسانية بكل المقاييس، أبشع جريمة من فعل جيش من المجرمين العنصريين الحاقدين، ينفذون جرائمهم يومياً بارتكاب كل أنواع القتل والتعذيب السادي والانتقام المرضي على مرأى ومسمع من العالم، إلى درجة أن أغلب الناس طبّعوا مع مشاهد الجريمة، وبات ضحاياها مجرّد أرقام لا يدققون في عددها عندما يقرأونها أو يسمعونها أو يشاهدونها حتى لا تبقى حاضرة في أذهانهم يتذكّرونها لأنها ستعكّر أمزجتهم أو تؤثر على شهياتهم أو تزعج نومهم أو تربك خططهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.
تؤكّد كل المنظمات الدولية والخبراء النزيهين والسياسيين الشجعان والصحافيين الموضوعيين والشخصيات التي تحترم نفسها أن ما يحدث جريمة إبادة جماعية، وجريمة ضد الإنسانية، وجريمة تطهير عرقي عنصري مقيت، وأكبر جريمة عقوبة جماعية لم يسبق أن شهدها تاريخنا المعاصر أدّت إلى مجاعة غير مسبوقة في عصرنا الحالي، لأن عصابة مارقة ترتكبها، وبدعم ومساندة من أقوى الدول التي تدعي الديمقراطية، وبتواطؤ أغلب الدول، بما فيها العربية القريبة والمحاذية لفلسطين، وأمام عجز كل دول العالم ومنظماته وهيئاته ومحاكمه عن إيقافها. تؤكّد ذلك الصور والفيديوهات والأصوات التي تخرج يوميا من قطاع غزّة، وتقدّم الأدلة والحجج التي لا يمكن دحضها، لأنها توثق، بالصوت والصورة وفي الدقيقة والساعة واليوم الذي ترتكب فيه الجريمة، وما توثقه وتتداوله وسائل الإعلام، مع كل فظاعته وبشاعته، هو فقط الجزء البسيط الظاهر من جبل الثلج، وما خفي أبشع وأفظع ومخيف، لأن عدد الشهداء والجرحى تجاوز 107 آلاف شخص، من دون احتساب عدد الضحايا تحت الأنقاض الذين لا يعلم عددَهم أحد. ويعادل هذا العدد أو يفوق 5% من سكان قطاع غزّة، ولا يشمل هذا الرقم ضحايا الضفة الغربية من الشهداء والجرحى والأسرى وقد تجاوز عددهم سبعة آلاف وسبعمائة شخص. نسبة ضحايا الحرب الإجرامية على غزّة لم تشهدها أي حربٍ في السابق، بما فيها الحرب العالمية الثانية، حتى في ألمانيا النازية بعد تدميرها والسيطرة عليها من الحلفاء لم تقتل فيها هذه النسبة من سكّانها في تلك الحرب الكونية! مع العلم أن نصف ضحايا ألمانيا النازية كانوا من العسكريين، بينما أغلب الضحايا في غزّة من المدنيين العزل الأبرياء، بل والمرحّلين من بيوتهم والجوعى نصفهم من الأطفال والنساء. وفي الحرب العالمية الثانية التي تعدّ أبشع حرب كونية، لم يحدُث أن استُهدفت المستشفيات والمدارس ومراكز الإغاثة وأماكن اللاجئين، ولم تسجّل عمليات إعدام لجرحى ومرضى وأسرى ونازحين بهذا الشكل الكبير المتعمّد والممنهج الذي يرتكبه جيش الاحتلال ويتباهى به جنوده بالصورة والصوت على وسائط التواصل الاجتماعي. وما يقابل ما يحصل اليوم في غزّة من جرائم هو ما كان يقع في معسكرات الإبادة النازية أو ما يعرف تاريخيا بـ"المحرقة" التي كان أغلب ضحاياها من اليهود. والمفارقة أن أحفاد أولئك الضحايا هم الذين يرتكبون اليوم الأفعال الإجرامية نفسها التي دانها العالم بالأمس، وحاكم مرتكبيها بينما يتغاضى عنها اليوم ويتعامل مع مجرميها!
حوّل الاحتلال الإسرائيلي غزّة إلى أكبر مقبرة مفتوحة في العالم، يموت الناس فيها يوميا بالقصف والقنص وبالترهيب وبالتجويع
لقد حوّل الاحتلال الإسرائيلي غزّة إلى أكبر مقبرة مفتوحة في العالم، يموت الناس فيها يوميا بالقصف والقنص وبالترهيب وبالتجويع، حيث يعيش الناس محرومين من الطعام والماء والدواء والكهرباء، وحيث آلاف الأطفال الأيتام تائهين يهيمون على وجوههم، بعدما استشهد كل أقربائهم، وحيث المستشفيات توقفت عن العمل، والمباني تحوّلت إلى ركام. وأمام بشاعة الصور التي تعكس محنة شعبٍ حكم عليه بالموت والعذاب والقهر والاضطهاد والتشرّد عبر الملاجئ والمنافي 75 سنة، تجد الإنسانية نفسها عاجزة عن كبح همجية سفاحين يتسلّحون بنصوص توراتية مشكوكٍ في صحتها، وأساطير خرافية عمرُها أكثر من أربعة آلاف سنة لشرعنة جرائمهم وسرقاتهم. يشكّل هؤلاء السفاحون أكبر خطر يهدّد مستقبل العالم، لأنهم يقدّمون النموذج المفزع على بشاعة الشر الإنساني، ولأنهم يضربون عرض الحائط بكل المواثيق والعهود والقوانين والآليات والمنظمات التي وضعتها البشرية بعد الحرب الكونية الثانية للحفاظ على الأمن والسلم العالميين، ويمهّدون الطريق للطغاة والمجرمين مستقبلاً لارتكاب الأفعال نفسها من دون أن يخافوا من أي متابعةٍ أو محاكمة أو محاسبة. كما أن تركيبة المجتمع الإسرائيلي الذي يدعمهم ويحرّضهم على ارتكاب مزيد من الجرائم يكشف عن خزّان كبير من التطرّف والحقد والغلّ التاريخي الذي يملأ صدور (وفكر) هؤلاء البشر الذين يهدّدون أمن الشعوب المحيطة بهم واستقرارها، بل شعوب العالم، لأن من لا يدعمهم ويبارك جرائمهم يعتبرونه عدوّهم وحاقداً عليهم تحاربه لوبياتهم المنتشرة في كل الدول، وتتهمه بمعاداة السامية وكره اليهود، بما في ذلك حتى اليهود الشجعان الذين يرفعون أصواتهم مندّدين بجرائم الصهيونية التي اختطفت اليهود واليهودية، وحوّلتهما إلى حائط مبكى تبث عبر شقوقه إيديولوجيتها السامّة في سعيها التاريخي نحو السيطرة على العالم من خلال بسط نفوذها على سياساته واقتصاده وإعلامه وٍرأيه العام.
إنسانيّتنا اليوم موضوع إدانة لعجزها عن وقف هذا العبث، وأصبحت قيمنا بلا قيمة، لأنها لم تحمنا من السقوط إلى درجة التطبيع مع تفاهة الشر
إنسانيّتنا اليوم نفسها موضوع إدانة لعجزها عن وقف هذا العبث، وأصبحت قيمنا بلا قيمة، لأنها لم تحمنا من السقوط إلى درجة التطبيع مع تفاهة الشر. وإذا لم نستدع إنسانيّتنا وكل القيم التي تأسّست عليها حضارتنا فنحن متواطئون في الجريمة. صمتنا على الجريمة وتطبيعنا مع مشاهدها وأرقامها وقصص ضحاياها، وسكوتنا على المتآمرين والمتواطئين والمطبّعين والمبرّرين والمنهزمين ودعاة التيئيس مشاركة فيها، وسوف يأتي اليوم الذي نسأل فيها أنفسنا: لماذا لم نتحرّك؟ كيف سمحنا بالجريمة أن تنفذ وأن نكتفي بدور المشاهد والشاهد؟ وماذا سينفع موقف الشاهد الشهيد الذي ارتقى؟ وسوف يأتي اليوم الذي نكتشف فيه أننا كلنا شركاء في الجريمة، بصمتنا عن الحديث عنها وخوفنا من التنديد بمرتكبها وتطبيعنا مع مشاهدها وتعوّدنا على الشر الذي باسمه ترتكب وتنفذ.
حتى لا نتعوّد على تفاهة الشر، وحتى لا نُطبع مع المأساة، وحتى لا ننسى الجريمة ومرتكبها، علينا أن نتذكّر وصية شاعر الحرية وشاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش، الذي يدعونا من أبديّته إلى أن نفكّر بغيرنا من الشهداء والجرحى، والمدفونين تحت الدمار، والمتضوّرين جوعاً يموتون كل يوم ببطء أمام أنظارننا، والمشرّدين بين الخراب أهدافا لنيران القنّاصة، والمرحّلين في العراء تحت القصف كاميرات وأزيز المسيّرات القاتلة، من أجل كل هؤلاء علينا أن تذكّر وصية درويش "وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك/ قل: ليتني شمعة في الظلام"!
مشاركة الخبر: سنكتشف أننا كنّا شركاء في الجريمة على وسائل التواصل من نيوز فور مي