مع غزّة: خليل النعيمي
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء.
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- تشغلني غزّة. لقد تحوّلتْ غزّة عندي، كما عند كثيرين غيري، إلى هاجس وجوديّ. غزّة ليست قطعة الأرض الصغيرة المُحاصرة، إنّها مصير العالَم العربي، كلّه، مصيره الذي يهدّده الاستعمار الصهيوني بقوّة، وهو الأمر الذي لا تنتبه إليه سلطات العالم العربي المتخاذلة التي تحسب نفسها في مأمن، وهو تصوّرٌ كاذب ومخادع ومنافق، وقبل كلّ شيء خطير. غزّة هي اليوم "أسطورة العصر الحديث"، وهي التي أبدعت مفهوم "المقاومة كفلسفة للوجود".
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- ما يجري في غزّة ليس عدواناً، إنّها حربٌ مصيرية وحشية؛ حربٌ استعمارية غاشمة تهدّد الوجود العربي برمّته. لقد اختفى الاستعمار الاستيطاني من على سطح الكرة الأرضية منذ عقود، ولم يبقَ منه إلاّ هذه البؤرة الصهيونية التي تقاومها غزّة وحدها اليوم. كيف، إذاً، لعدوانٍ استعماري كاسح، مثل هذا، ألاّ يؤثِّر، عميقاً، على حياتنا، وهو كما قلتُ يستهدف وجودنا بشكل مباشر وخطير.
المهمّ ألّا يتخاذل المبدع وألّا يقف على الحياد أو يبرّر
■ إلى أيّ درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- كلّ ما يقوم به الكائن لمواجهة الاستعمار نافعٌ ومفيد ومجيد. والإبداع، مثله مثل نشاطات الإنسان الأُخرى، يمكن أن يجابِه العدوان بطرائقه الخاصة. المهمّ ألاّ يتخاذل المبدع، وألاّ يقف على الحياد، وألاّ يبحث عن تبرير لكَيْ لا يشارك في سياق التراجيديا الإنسانية العظمى التي تحدث أمام عينيه. الكلمات المبدعة سلاح، ويخطئ مَنْ يعتقد أنَّ الكلمات ليست كذلك. إنّها، على العكس ممّا نتصوّر، سلاح فعّال جداً إذا أحسنّا استخدامها.
■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- وما الفرق؟ المهمّ أن تحبّ ما تفعله، وأن تتخذ المواقف السيادية في الوجود، وألاّ تخضع لأحد أبداً. المبدع السيّئ هو نفسه السياسي السيئ والمناضل السيئ و… أنا شخصياً فعلتُ ما أريده بوعي كامل، وإذا ما أخطأتُ لا أعرف الندم. وأتصوّر أنّ "فلسفة لو…" هي جزءٌ من مخلّفات القرن التاسع عشر، مع أنّ ثمّة ضحايا كثيرين لها يعيشون في عصرنا هذا.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- الكائن الواعي لا ينتظر التغيير من أحد، وإنّما يفعله، يفعله لنفسه أوّلاً، فالتغيير لا يخصّ العالَم، وإنّما الفرد. لا أنتظر من العالم شيئاً، لأنَّ العالم أصمّ وأبكم وبلا عقل. عليّ أنا، علينا نحن كأفراد، أن نبحث عمّا نريد، وأن نحاول تحقيقه، بالرغم من العقبات الكثيرة. العالم من شأنه فقط أن يعيقنا عن تحقيق ما نريد. إنّه صانع العقبات التي لا تنتهي، ومع ذلك علينا تحدّيها وتجاوزها مهما كانت الأخطار والصعوبات، ولنا في ما تفعله المقاومة الفلسطينية اليوم في غزّة أحسن مثال. ألا ترى ما يحدث؟
كلّ ما يقوم به الإنسان لمواجهة الاستعمار نافعٌ ومفيد
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تود لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- قطري بن الفجاءة التميمي، لأشكره على ما قاله في أبياته التالية مشجّعاً نفسه على المقاومة:
"أقول لها وقد طارت شعاعاً/ من الأبطال ويحكِ لن تراعي
فإنكِ لو طلبتِ بقاء يوم/ عن الأجل المسمّى لن تُطاعي
وما للحيّ خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع".
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- ليست لديّ نصائح لأحد، وبالخصوص لأهل غزّة. غزّة العظيمة التي صنعت "تاريخ الافتراق العربي" بمقاومتها التي لا مثيل لها في العصر الحديث. ليس لدي ما أقوله لأهلها سوى: شكراً من القلب، لأنّهم بمثل هذه الشجاعة والصبر والعناد والمقاومة التي تصمد يوماً بعد يوم، أثبتوا للعالم اللئيم، وللصهاينة العرب المتخاذلين، أنّ الحق من دون مقاومة باطل.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- لا تصدّقوا سلطاتكم أيّاً كانت المبرّرات التي تقدّمها لكم. السلطات السياسية في العالم عميلٌ بعضها لبعضها الآخر، ومَنْ يدفع ثمن العمالة هُم الأفراد، هُم المواطنون المغلوبون على أمرهم، هُم نحن كلّنا بلا استثناء، حتى أولئك الذين هم تحت إبط السلطة وبين أحضانها، لأنّ التاريخ يعود في النهاية إلينا، إلى الشعب المبتلى بهذه السلطات العميلة والمسحوق بطغيانها. علينا إذاً أن نكون جديرين بتاريخنا، علينا ألاّ نصدّق أحداً يحكمنا أو يتحكّم فينا، حتى ولو كان أبانا الذي…
■ حين سئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أحبّك، أحبّ أطفال فلسطين الأباة. أحبّ الإصرار المقاوِم في وجوههم السُمْر المعبّرة عن الصمود بالرغم من الرعب الوحشي الذي يطوّقهم. هُم يستحقّون فلسطين وفلسطين تستّحقهم. تحيا المقاومة.
بطاقة
روائي سوري ورحّالة وطبيب جرّاح يقيم ويعمل في باريس. وُلد في بادية الشام، ودرس الطبّ والفلسفة في دمشق. وفي العاصمة الفرنسية تَخصَّص في الجراحة، ودرجة الماجستير في الفلسفة المقارنة في "جامعة السوربون". من رواياته: "تفريغ الكائن"، و"القطيعة"، و"الخُلَعاء"، و"مديح الهرب"، و"قَصّاص الأثَر"، و"دمشق 67"، و"لو وضعتم الشمس بين يدي"، و"زهر القطن". ومن كتبه في "أدب الرحلة": "مخيلة الأمكنة"، و"كتاب الهند"، و"قراءة العالم"، و"الصقر على الصَبّار".
مشاركة الخبر: مع غزّة: خليل النعيمي على وسائل التواصل من نيوز فور مي