خليل صويلح عن محمد ملص: سيرة سينمائية لفردٍ وبلد
في "احْكِ منامكَ حتّى أراك" ("منشورات جسور للثقافة"، السعودية، 2024)، يحفر السوري خليل صويلح في تربة محمد ملص وسينماه. فالمحتوى النقدي لا يكتفي بنظرياتٍ وسياقات تتضمّنها عادة كتبٌ نقدية سينمائية، إذ يفتح أفق الكتابة على الحميميّ المُكثّف والغنيّ، ويُحرّرها من طابعها النقدي التحليلي المباشر، ويُقدِّم صُوَراً عن علاقة صويلح بملص.
يصعب اعتبار الكتاب نقداً سينمائياً. لكنّ ذلك لا يعني صويلح بشيء، لأنّه حاول بوعي تفكيك الأنساق الثقافية التي تتأسّس عليها الكتابة، متّخذاً من الشكل مختبراً لتوليد صُوَرٍ ومشاعر ودهشة وألم. فكلّ مقالة تتناول فيلماً لملص، من دون تقديم قراءة تحليلية دائماً، لسرده بطريقة مذهلة حكايته مع ملص وسينماه، والسياق التاريخي المُساهم في ولادة هذا الاسم، الذي يُعتَبر علامة فارقة في تاريخ سينما المؤلّف في سورية.
ببَسْطه حكياً دافئاً، يستغلّ صويلح المساحة اللامحدودة التي يُتيحها السرد، لقول بعض العالق في ذاكرته عن سينما ملص ومنعطفاتها وتاريخها. المطروح في الكتاب ربما لا يُعثر عليه في كُتبٍ أخرى، لاتخاذه شكل نَفسٍ سرديّ يُلامس عمق الذاكرة ويُفكّك أوصالها.
يُدخل صويلح قارئ كتابه في متاهات سردية مغرية، تجذبه إلى معرفة المخرج، وتلمّس عمق الجرح الغائر في جسده، منذ أن أصبح "يمضغ الوقت في دمشق على دفعات، كأنّ عجلة سينماه توقّفت إلى الأبد". والكتاب يُظهر الأصالة السينمائية لملص، ووعيه مفهوم التزام قضايا سورية وعربية، ويسرد سيرة آلامه في علاقته بالكاميرا والنظام والرقابة والمجتمع. كما يُقدّم معلومات وأسماء وأماكن وفضاءات ومقاهي، عرفت عشّاقَ السينما وصنّاعها.
هذا الحكي الشخصي يُساهم، بطريقةٍ غير مباشرة، في تكوين صورة دقيقة عن المُعاش اليوميّ في سيرة ملص، وقيمة مُنجزه السينمائي. فالمؤلّف يحرص على كتابة غير المعروف، جاعلاً إياه أفقاً للبوح والتفكير. ولا يكتفي بالأفلام، إذ استعاد رسائل له من موسكو، وكان فيصل درّاج يتهيأ للسفر إلى باريس لاستكمال دراسة الفلسفة. تكشف الرسائل، بطريقة خفيّة، علاقة ملص بماركس والفلسفة. المثير للدهشة كيفية أعاد صويلح ـ بصُوَر سينمائية ومشاهد يوميّة ورسائل وحكايات شخصية، وبالعالق في الذاكرة ـ رسم صورة أثيرة لتلك السيرة السينمائية.
للشكل طابع مُولّد للذكريات، يغوص عبره المؤلّف في تجربةٍ سينمائية تنبثق من جرح مجهول، مُقدّماً حقائق، وجامعاً مقتطفات من آراء ملص ومفهومه وتصوّره لسينماه. كما يُضمر تحايلاً جمالياً ذكياً، وقدرة على ابتداع قالبٍ فني يُمرّر عبره سرده، خاصّة أنّ المنعطفات الكبيرة في تاريخ الثقافة البشرية عبارة عن ثورات تحقّقت عبر مفهوم الشكل، والأخير يحثّ الكتّاب والمفكّرين والرسّامين على البحث عن أشكال جديدة، تتقدّم الكتابة بها، وتُضيءُ طريقاً جديدة يُعوَّل عليها مستقبلاً.
باستعانته بالسرد لتمرير تحليلاته وتأمّلاته الشخصية، يقطع صويلح شوطاً كبيراً في الكتابة، ويخرج من طابعها النظريّ الذي يمتعض الناس منه، لتفضيلهم المشاهدة والاستمتاع بها، على قراءة أشياء مُلغّزة بالنسبة إليهم. الطابع السرديّ لا يُعتَبر شكلاً أدبياً، بل قاعدة فكرية، تُتيح للكاتب التعبير بطلاقة، ورصد الحكايات والقضايا، من دون التخلي عن تحليل يُقدّم قراءات شخصية لأفلامٍ أنجزها ملص، وأنجزها آخرون عنه، كـ"فتح باب السينما" لنزار عنداري، المُرفق أيضاً بكتاب باللغة الإنكليزية: "سينما محمّد ملص: رؤى مؤلف سوري" (2018).
يُركّز صويلح على الألم في سيرة ملص، كاشفاً تاريخاً من الإجهاضات والمتابعات، بعد تراكم سيناريوهات في مكتبه، بطريقةٍ تبدو سيرته انعكاساً حقيقياً لسيرة بلدٍ. تاريخ السينما السورية، منذ سبعينيات القرن الـ20، تاريخ آلام، إذ لم تستطع مؤسّسات الإنتاج التخلّص من سُلطة الرقابة ومكرها. والتجارب السينمائية بعد ملص، الحاصلة على دعمٍ أجنبي تحديداً، عرفت تحوّلات فكرية وجمالية عدّة. ورغم جودتها وأصالتها السينمائية، لا يزال تاريخ الرقابة يُرخي ظلاله على الواقع السوري.
قراءة كتاب خليل صويلح يجعلنا أمام واقع سوريّ، تفرض الرقابة فيه سُلطتها على المخرجين، وتعطّل تجاربهم، وتنتهك حياتهم الشخصية، وتدفعهم إلى العزلة والانتحار والجنون.
مشاركة الخبر: خليل صويلح عن محمد ملص: سيرة سينمائية لفردٍ وبلد على وسائل التواصل من نيوز فور مي