لبنة أساسية في هُويّة فلسطين الثقافية
تعرّفت إلى الاسم، غوستاف دالمان، نهاية السبعينيات، قبل قدومي إلى ألمانيا، خلال زيارتي عائلة ألمانية في جبل اللويبدة بعمّان، حين قدّموا كتاباً لي وقالوا: "إليك تراث فلسطين"، وكان هذا كتاب دالمان "الديوان الفلسطيني" Palästinischer Diwan (صدر في 1901)، وفيه تجميع وتحليل للأغاني الشعبية الفلسطينية. من هنا، اقتربتُ من الحقل الذي انخرط فيه عالم اللاهوت الألماني واللغات السامية، حيث جامعة لايبزغ من أهم المحطّات العلمية التي تتلمذ فيها وتعلّم اللغات السامية، بما فيها اللغة العربية.
سافر دالمان إلى فلسطين عام 1899 في رحلةٍ علميةٍ سنة ونصف السنة. وهنا تعرّف دالمان على حياةِ الفلسطينيين عن قرب في القرى والمدن والبادية، ودشّن الأساس لرؤيته للبحث العلمي في الثقافة الماديّة المعاصرة والقديمة في فلسطين. عيّنه القيصر الألماني فيلهلم الثاني مديراً لـ "المعهد الإنجيلي الألماني للدراسات القديمة للأرض المقدسة" في القدس، والذي تأسّس عام 1902 حيث انطلقَ دالمان في أبحاثه الميدانية في فلسطين. أمضى صيف 1914 مع عائلته في أوروبا عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى. وبسبب نقده السياسة البريطانية، لم يُسمح له بالعودة إلى القدس واستئناف عمله في المعهد، وكان قد قبل في 1917 دعوةً وجّهت إليه ليكون أستاذاً في جامعة غرايفسفالد الألمانية، حيث تفرّغ للبحث العلمي، وأسّس في عام 1920 معهداً أسماه "معهد دراسات الأراضي التوراتية والقديمة"، والذي أصبح فيما بعد يُعرف بمعهد غوستاف دالمان للدراسات الفلسطينية. وبالإضافة إلى أبحاثه المتعدّدة في اللغة الآرامية، بما فيها بشأن النموذج الأصلي لكلمات يسوع ومنطقة القدس، كان عمله الأساسي في غرايفسفالد إنتاجَ عمله الموسوعي "العمل والعادات في فلسطين"، سبعة مجلدات مع أكثر من ثلاثة آلاف صفحة. وظلّ المجلد الثامن غير مكتمل، ونُشِر في جزءٍ خاص في العام 2001. وقد تمّ الحفاظ في هذه الجامعة الآن على المادّة العلمية الخاصة بغوستاف دالمان، وبأكثر من 20 ألف صورة، إضافة إلى الرسومات التي كان قد جمعها. ويمكن القول إنّ غوستاف دالمان ترك ما يمكن أن يُوصف بالإرث الثقافي المستدام من المادةِ العلمية عن الثقافة الفلسطينية.
المنهجية العلمية
قليلون من أنصفوا التاريخ الفلسطيني من علماء الغرب، ولكن منهجية دالمان أنصفت فلسطين. وأهمية منهجيته العلمية في موضوعِ دراسة الثقافة المادية الفلسطينية، وقد وصف حياة الشعب الفلسطيني وأرضه كما هي، ودوّن أحكاماً مسبقة، وبطريقةٍ علمية. وقد كانت نقطةَ البداية عنده الانطلاق من الوضع الحالي إلى الثقافة العربية الفلسطينية في زمنه من أجل بناء جسر مستدام يربطُ الحاضر العربي لفلسطين، ويمتدّ إلى ماضيها القديم. وكان دالمان يعتقد أنّ هذا هو المدخل الأساسي لفهمِ بيئةِ الكتاب المقدّس، فقد اعتمد، في أبحاثه، على الحياة اليوميّة، وعَرَضَ صورةً شاملة تمثّل حياة الانسان في فلسطين مع امتداداتها في العصور القديمة، وابتعدَ عن الانتقائية والجزئيات التي يستخدمها علماء اللاهوت في تفسير الظواهر والأحداث التاريخية والدينية.
قليلون من أنصفوا التاريخ الفلسطيني من علماء الغرب، ولكن منهجية دالمان أنصفت فلسطين
كان يهمّه إعطاء صورةً شاملة عن بلادِ فلسطين وعن حياةِ الإنسان أيّام المسيح وأرض الكتاب المقدّس من خلال تلك الصورة الشاملة، واستخدم فيها دراسة طبيعة التربة والمناخ والنباتات، ثمّ عرّج إلى العمل والعادات لسكّان البلاد، بما في ذلك أنماط سكنهم وأشكال الحياة للقرية والمدينة والبادية في الحاضر والماضي، وجمع كلّ ما يتعلّق بذلك، بما فيها ما يتعلّق بالحياة اليومية والتقاليد الأدبية والموسيقية، واعتمدَ الإثنولوجيا والتاريخ والآثار والجغرافيا وغيرها في دراساته.
ثراء المادّة العلمية
أهمُّ أعمال دالمان العلمية عمله الموسوعي "العمل والعادات في فلسطين"، ولا يمكن تخمين ثراء المادة العلمية وتنوّعها في هذا العمل المتميّز من خلال هذا العنوان الموجز. صدرَ هذا العمل في سبعةِ مجلّدات (الأول في جزأين) في أثناء حياته في الأعوام 1928-1942. وعندما توفي في 1941 كان المجلد السابع في المطبعة. وتبعها المجلد الثامن بعد مماته، والذي صدر في 2001. وتحتوي المجلدات السبعة الأولى على نحو ثلاثة آلاف صفحة و700 رسم توضيحي.
في المجلد الأوّل في جزأين عام 1928، عمل نموذجي للدراسات القديمة ودراسات ثقافة فلسطين. يقدّم هذا المجلد ويعالج فصول الخريف والشتاء والصيف والربيع في فلسطين، حيث يبدأ بسردٍ مُفصّل للمواسم والروتين اليومي، ويشرح كيف يختبرُ المرء الطبيعة في فلسطين، وكيف يعيشها الإنسان من حيث إحساسه بها كالبرد والحرارة والمطر والجفاف، معتنياً بالتفاصيل الدقيقة ومع عرضٍ لمصادر المعرفة والخبرات الإنسانية وشرح للعلاقات الاجتماعية التي تربط بين سكان فلسطين في تلك الفترة.
يتناول المجلد الثاني الزراعة، ويقدّم بشكلٍ مكثّف المسائل الأساسية في ممارسةِ الزراعة في فلسطين، ووصفاً فريداً للمعدّات والمحاصيل الزراعية، ويتم شرح هذا القطاع المركزي في حياة أهل فلسطين بشكلٍ شامل ومفصّل ودوره في حياة الفلسطينيين، ما يوفّر نظرةً عميقة في التراث الثقافي في فلسطين.
ويقدّم دالمان في المجلد الثالث "من الحصاد إلى الطحين": الحصاد، الدّرس، التذرية، الغربلة، التخزين، الطحن" دراسة عامة ومفصّلة عن الخطوات الأساسية لزراعة المحاصيل في فلسطين، ابتداءً من البذار إلى الحصاد، وكلّ المراحل التي تمرّ بها، وذكر كلّ الأنشطة وخبرة الفلاحين الفلسطينيين واللغة المستخدمة. وأشار إلى أنّ الطريق من الحصاد إلى الطحين إنجاز ثقافي كبير.
يقدّم المجلّد الرابع في جزئه الأوّل نظرةً عامةً غنيةً على الأطعمة الأساسية في حياة الفلسطيني (الخبز والزيت والعنب)، بدءاً من عملية إشعال النار لعملية الخبز باستخدام الخشب، والفحم، والشجيرات الشوكية، والأعشاب المجفّفة، والقشّ، والثفل، والجفت، والزبل، والجلّة.
تعرّف دالمان على حياةِ الفلسطينيين عن قرب في القرى والمدن والبادية
يتناول دالمان الجوانب الأساسية لإعدادِ الخبز بالتفصيل، خصوصاً في ما يتعلّق بأدوات إعداد الخبز، كالطابون والتنّور والفرن، ويشرح كذلك الأنواع المختلفة من الخبز والمعجّنات بالتفصيل. ويعالج الجزء الثاني من هذا المجلد الزيت، ويبدأ بأطروحة عن شجرة الزيتون والزيتون "الرصيص" الصالح للأكل، ويتبع ذلك وصفٌ تفصيليٌّ لدرس الزيتون واستخراج الزيت وشرح لجميع أنواع معاصر الزيتون، مع وصف لاستخدام المنتجات الزيتية. يقدّم الجزء الختامي الخاص بالعنب معلوماتٍ شاملة عن الكروم والعنب وأوراق العنب والزبيب وعصير العنب (الدبس) واستخداماته. وبهذا، يكون دالمان قد عرض الثالوث الفلسطيني من الأطعمة الأساسية (الخبز والزيت والعنب)، ونجح هنا في إعطاء نظرةٍ ثاقبةٍ ومثاليةٍ للحياةِ في فلسطين.
ويتناول في المجلّدِ الخامس "المنسوجات، الغَزْل، النسيج، الملابس". وناقش هنا إنتاج الملابس، ثمّ أنواع الملابس المختلفة ومادّة صناعة الملابس، مثل صوف الأغنام، وشعر الماعز، وشعر الإبل، وشعر الخيل، والكتّان، والقنّب، والقطن والحرير، وتطرّق إلى عمليةِ إعداد هذه المواد، إضافة إلى الأدوات المستخدمة في الصناعة مثل المغزل، وعجلة الغزل والأنشطة المرتبطة بها، مثل الصباغة، ويتناول المزيد من التحليلات الخاصة بالنسيج، مثل النول بأنواعه، ثم تقنيات الإنتاج المختلفة مثل الغسيل، التطريز، شبكات الحياكة، الخياطة، الدباغة، صناعة الأحذية. ويأتي في الجزء الأخير على أنواعٍ كثيرة من الملابس الرجّالية والنسائية، مع شرحٍ مفصّل. ويعطي هذا المجلد نظرة عميقة على التقاليد القديمة لبلاد الشام.
وفي المجلّد السادس، يعالج دالمان حياة الخيام، تربية المواشي والألبان، والصيد، وصيد الأسماك بكل تفاصيلها. ويتناول المجلد السابع البيت الفلسطيني وبناءه والتقاليد المتعلّقة به، وكذلك تربية الدجاج والحمام وتربية النحل في فلسطين. ويتناول المجلّد الثامن الحياة المنزلية والولادة والزواج والموت.
أهمية الموسوعة
تُعتبر هذه المدوّنة مصدراً أساسياً للتعرّف إلى حياةِ الشعب الفلسطيني وذاكرته واستمراريته على أرضه عبر آلاف السنين. ويعتمد هذا العمل الموسوعي على الأبحاث الميدانية التي قام بها دالمان في فلسطين عدّة سنوات (1902-1914). وكان للحرب العالمية الأولى والاستعمار البريطاني الأوروبي في فلسطين ولبداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين تأثير كبير على المشهد الثقافي والطبيعي في فلسطين، وعلى الحياة الفلسطينية عامةً. ومع حلولِ النكبة تعرّضت ثقافة الشعب الفلسطيني للتدمير والطمس.
وهنا أهمية الموسوعة وما جمعه غوستاف دالمان من ملاحظاتٍ في سنوات عمله في فلسطين، والتي كانت قد بدأت تختفي وتتغيّر منذ أيام الانتداب البريطاني. لذلك، يمكن القول إنّ موسوعته أهم وثيقة عن حياة أهل فلسطين منذ بداية القرن العشرين وحتى 1948، وتشكّل لبنة أساسية في الهُويّة الثقافية للشعب الفلسطيني.
مشاركة الخبر: لبنة أساسية في هُويّة فلسطين الثقافية على وسائل التواصل من نيوز فور مي