حرب الثارات النائمة وتسوية الحسابات المُعلّقة
على إيقاع حربٍ نشبت ولم تنشب طوال عشرة أشهر دامية، حضرت بكلكلها مراراً، وغابت بعجزها نوبة بعد نوبة، حدثت المفاجأة التي لم تفاجئ إلا ذوي المقاربات النمطية السائدة، والقراءات الرغائبية الساذجة، دخل الشرق الأوسط، الذي تلد في أحشائه الحروب من تلقاء نفسها، طوراً لا هو بالجديد، ولا هو من الماضي الذي يمضي ولا يمضي، الأمر الذي جعل حروبه المتواصلة قدراً مُقدّراً لهذه المنطقة المُستباحة، المسكونة بالصراعات والتدخّلات والتقلّبات، المفتوحة على الاحتمالات السيئة، بما في ذلك الدوران في حلقة نار مفرغة.
قاربت هذه الزاوية، قبل نحو شهر، الموقف المُتحوّل بين عشية وضحاها، من زاوية مختلفة عن توقّعات محمولة على اعتقادات وافتراضات مُجمعة على أنّ الحرب الكبيرة ليست وشيكة، وربّما ممنوعة، من منطلق أنّ الأطراف المعنية غير راغبة فيها، وليس لها مصلحة في نشوبها، أقلّه في هذه المرحلة، حيث انبثقت وجهة النظر البديلة هذه من أنّ لكلّ حرب منطقها، وسياقها المُستقلّ عن سابقاتها، كما أنّ لكلّ حرب خطابها، الذي يجعل كلّ طرف من أطرافها أسيراً لسرديّته واعتباراته وادّعائه، وصورته عن نفسه، سواء التي في مرآة "الغير" أو في مرآة ذاته.
كان تقدير الموقف آنذاك مُؤسّساً على قاعدة أنّ الوضع، بسقفه المُنضبِط نسبياً في جبهات الإسناد، لن يظلّ على حاله، مع تفاقم الاشتباكات وتزايد التحدّيات، إن لم نقل إنّه بدأ في واقع الأمر يخرج تدريجياً عن السيطرة، وأنّ المواجهات الذاهبة من تصعيد شديد إلى تصعيد أشدّ ستفضي، بالضرورة الموضوعية، عند أول نقطة فارقة، إلى الانزلاق عن حافّة الهاوية، سيّما وأنّ الأهداف الصفرية المُتقابِلة، والثارات التاريخية النائمة، ناهيك عن الغايات الكلّية المتناقضة في ضفّتي القتال المُحتدِم في طول الخطّ المستقيم، لن تدع مجالاً لمزيد من التأجيل والمراوغة، ومن ثمّة المسألةَ مسألةُ وقت ليس إلّا، وإننا ماضون في لحظة ما إلى حربٍ لا رادّ لها.
خلال الأسبوع الفائت، وقعت النقطتان النوعيتان الكفيلتان، كلّ منهما على حِدَة، بإشعال الحرب التي لا يمكن وصفها بأنّها إقليمية أو مُجرّد جولةٍ كبرى خاطفة أو محدودة، إلى أن تأخذ ردَّات الفعل مداراتها المُحتمَلة، وتحفر متوالية ردَّة الفعل على الفعل مجراها الرئيس، أو يقع مُتغيّر ليس ضمن الحسابات المسبقة، كأن تجد واشنطن نفسها، عشية معركة انتخابات رئاسية حامية الوطيس، مُكرهةً على إملاء ما امتنعت عن إملائه على ابنها الشقي المُدلّل، ونعني فرض وقف إطلاق النار في غزّة، درءاً لتوسّع الحرب أكثر، والحيلولة دون مضاعفاتها المجهولة، وامتدادها إلى ساحات أخرى، ليس للدولة العظمى الوحيدة مصلحةٌ حيويةٌ فيها.
وفيما راح يستبدّ بالقادة الإيرانيين وحلفائهم حسّ ثقيل بالإهانة إزاء ما حدث في بيت الضيافة في طهران، باغتيال إسماعيل هنية، ويشعر حليفهم الأول في لبنان بالارتباك والانكشاف الشديدَين، جرّاء تمادي دولة الاحتلال في عمليات اغتيال كبار قادته العسكريين، تجد الذئاب الجريحة في تلّ أبيب نفسها مطالبةً بتسديد الحسابات المفتوحة مع حزب الله، لاستعادة الثقة بالنفس، وترميم قوّة ردع ضائعة منذ "طوفان الأقصى"، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بأنّنا اليوم أمام عتبةِ الحربِ المُرتقَبة أو أنّنا في أتون هذه الحرب، التي لا مناص منها، أكان الهدف إشفاء غليل الثارات النائمة، أو تسديد فاتورة الحسابات المُعلّقة.
ومع أنّ من المُبكّر الخوض في مآلات هذه الحرب التي سعت الدولة العبرية إلى فتحها على أوسع نطاق لجرّ أميركا إلى معمعانها الأشمل من غزّة ولبنان، وصولاً إلى المنشآت النووية الإيرانية، إلّا أنّه يمكن القول، سلفاً، إنّ دولة الاحتلال تكبّدت خسارتَين فادحتَين قبل أن تبدأ. الأولى أنّ القاعدة الغربية المُتقدّمة في الشرق الأوسط، أو قل حاملة الطائرات التي لا تغرق، تبيّن أنّها لا تستطيع بعد 75 سنة الدفاع وحدها عن نفسها، بعد أنّ هبت أميركا، للمرة الثالثة في عشرة أشهر، لتأمين الحماية لدولة أوهمتنا أنّها القلعة الحصينة، والذراع الطويلة، والقوّة القادرة على لعب دور الكلب المسعور في الشرق الأوسط.
الخسارة الثانية ماثلة في أنّ سياسةَ الاغتيالات المنهجية لدى دولة الاحتلال فاشلةٌ تاريخياً، بدليل أنّ البهجة العارمة التي عمّت الأوساط الإسرائيلية، غداة نجاح عمليتي الاغتيال، لم تدم أكثر من 12 ساعة، لتحلّ في محلّها مشاعر الهلع إزاء ما نجم عن هذه السياسة الخائبة، بدليل تدفق نحو 70 ألف مستوطن إلى مطار اللدّ، في ليلة واحدة، طلباً للمغادرة.
مشاركة الخبر: حرب الثارات النائمة وتسوية الحسابات المُعلّقة على وسائل التواصل من نيوز فور مي