بنغلادش تنتظر العدالة الاجتماعية بعد إزاحة حسينة
تسببت الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلادش الهاربة البالغة من العمر 77 عامًا، في إزهاق أرواح أكثر من 300 من مواطنيها في بلادها طوال عدة أسابيع مضت. لكن إصرار الطلاب الثائرين على نيل مطالبهم، التي كانت على رأسها إعادة النظر في تشريع يمنح أبناء قدامى المقاتلين 30% من الوظائف الحكومية، على الرغم من قلتها، مكنهم من إزاحة السيدة العجوز عن السلطة، وجعلها تفر إلى الهند على طائرة عسكرية.
إذا، ثمة مرحلة جديدة تنتظر بنغلادش بعد أن استقر الطلاب، قادة انتفاضة إطاحة رئيسة الحكومة وحزبها، على اختيار العالم الاقتصادي البارز محمد يونس ليدير فترة المرحلة الانتقالية للإعداد لانتخابات برلمانية جديدة، ومؤخرًا قبل الجيش هناك بمطلب الحركة الطلابية، وإسناد هذه المهمة إلى يونس.
التحديات كثيرة ومتعددة، ليس أمام الحكومة المؤقتة ببنغلادش، التي سينحصر دورها على الترتيب لإجراء الانتخابات البرلمانية قريبًا، ولكن التحديات تنتظر الحكومة التي ستسفر عنها الانتخابات المقبلة.
وإذا كانت بنغلادش قد عرفت الانتخابات الحرة منذ مطلع التسعينيات -مع مراعاة ما يشوبها من تصرفات تخدش نزاهتها- فإن المردود الاقتصادي والاجتماعي لهذه الحالة السياسية لم يكن على الوجه المطلوب.
وحان الوقت لتكون السياسة في خدمة احتياجات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية ببنغلادش، وبخاصة في بلد يعاني من فيضانات وكوارث طبيعة بشكل شبه سنوي، ومن الضروري أن يكون الأداء الحكومي خلال الفترة المقبلة مركزًا على حسن إدارة الموارد الاقتصادية (الطبيعية والبشرية والمالية).
فليس هناك ترف لإهدار أية موارد في ذلك البلد الفقير، ولذلك ينبغي أن تتصدر العدالة الاجتماعية أجندة الحكومات المقبلة، فهي أهم عوامل الاستقرار لأي بلد، ولعل ما حدث للشيخة حسينة من هروب خارج البلاد، وغضب عارم في الشوارع، يردع كل من يهمل قضية العدالة الاجتماعية.
وهناك تعريفات متعددة لتلك العدالة، أبرزها هو إتاحة الفرص أمام الجميع، والتمكين من ذلك، بشكل دائم. وبالتالي فنحن أمام عدة تحديات تواجهها الحكومات الديكتاتورية والمجتمعات النامية، حيث إن إتاحة الفرص عادة ما تكون لصالح فئة دون باقي شرائح المجتمع. وهو ما لمسناه من حالة بنغلادش، حيث جرى التمييز لصالح المحاربين القدماء وأقاربهم، على عدد محدود من فرص العمل بالحكومة، وذلك للمزايا الاقتصادية والاجتماعية التي يوفرها العمل بالحكومة من تأمين صحة واجتماعي ودخل منتظم.
والمحور الثاني والمهم، في تعريف العدالة الاجتماعية، هو التمكين من الفرص المتاحة، فقد تكون تلك الفرص، ولكن تُمنع منها شرائح كبيرة، لا تستطيع الإفادة منها، كما هو الحال مع باقي أبناء بنغلادش، بسبب أنهم ليسوا من أبناء المحاربين القدماء، أو ليست لديهم المقدرة على دفع الرشاوى اللازمة للحصول على فرص العمل الحكومية، أو ليس لديهم من المحسوبيات التي تساعدهم في الحصول على الوظائف الحكومية.
والمحور الثالث هو أن تكون هناك إتاحة للفرص، والتمكين من ذلك، بشكل دائم، وليس لأوقات محددة، وهو ما يعني أن إتاحة الفرص والتمكين منها لكافة أبناء المجتمع يجب أن يشملا كافة المجالات وليس فقط الحصول عل فرص العمل، بل يجب أن يكون ذلك في ما يخص توزيع الثروة، والحصول على كافة موارد المجتمع، التي يمكن الإفادة منها حسب اشتراطات القوانين المنظمة لما هو مطروح للعامة.
ولكن يبقى السؤال المهم، وهو هل تبدأ بنغلادش مسيرة جديدة لتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث إن غياب تلك العدالة في هذا البلد الفقير له مظاهر أبرزها:
1- يوجد نحو خمسة ملايين شخص بلا مأوى، ويعيش معظمهم في المدن، وبخاصة في العاصمة داكا، كما تشير البيانات الحكومية إلى أن 75% تقريبًا من الأسر تعيش في بيوت طينية، وأن نسبة أسرة من بين كل ثلاث لديها غرفة واحدة للمعيشة، وأن نسبة 7% من المنازل في بنغلادش يعيش خمسة أفراد من أبنائها في غرفة واحدة، وهو ما يبعث على زيادة معدلات الإصابة بالأمراض.
وحسب تقديرات الخطة الخمسية في بنغلادش، قدر أن يصل عدد المشردين إلى 8.5 ملايين شخص في عام 2021، وذلك لأسباب كثيرة منها عمليات الفيضانات، وتأكل الأراضي بسبب طغيان الأنهار، وكذلك بسبب حالات الفقر.
2- هناك فئة تعاني مشكلات كبيرة في بنغلادش، وهي أصحاب الإعاقات الجسدية، الذين قدرتهم وثيقة صادرة عن الأمم المتحدة في عام 2019، بعنوان "الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، بما يقرب من نسبة 10% من السكان، أي ما يقدر بنحو 16.5 مليون إنسان، حسب تقديرات العدد الإجمالي للسكان في نفس العام والمقدر بنحو 165 مليون نسمة.
وبلا شك، فإن هذا العدد الهائل يستلزم عناية خاصة، من اهتمام الدولة عبر الإنفاق العام، أو تفعيل العمل الأهلي، أو توجيه المساعدات الدولية، ومن باب أولى العمل على تلافي استمرار الظاهرة، بعلاج أسبابها، لتكون نسبتهم في المجتمع أقل من هذا العدد الكبير.
3- يمثل بند الأجور والرواتب نسبة 20% من إجمالي الإنفاق العام للحكومة البنغالية حسب تقديرات عام 2021، والمنشورة على قاعدة بيانات البنك الدولي، ونظرًا لما يتحصل عليه العاملون بالحكومة، يحرص الكثيرون على الالتحاق بالعمل الحكومي.
ومن هنا، كانت هذه القضية مفجرة للحراك الطلابي الذي أطاح الشيخة حسينة، وبطبيعة الحال، تُظهر هذه القضية ما يتعرض له العاملون في بنغلادش لدى القطاع الخاص من انخفاض الأجور، وساعات العمل الطويلة، وكذلك بيئة العمل غير المناسبة، وبخاصة في قطاع النسيج الذي شهد طفرة كبيرة، سواء على مستوى حجم الإنتاج، أو على مستوى استهداف التصدير.
ولو كان القطاع الخاص يقدم للعاملين الحد المعقول من الأجور وبيئة العمل اللائقة، لما حدث هذا الغضب حول وظائف الحكومة. ولو كان العمل أحد أهم معايير الدخل والثروة في بنغلادش، لكان له دوره في ضبط المعادلة المختلة للحصول على حصص الدخل القومي.
فأرقام قاعدة بيانات البنك الدولي تبين أن حصة أفقر 10% من السكان من الدخل القومي تصل إلى 3.5% من الثروة، بينما حصة أغنى 10% من السكان تصل إلى 27.4% من الثروة، وهي نسبة لها تأثيرها الكبير في بلد فقير.
وبطبيعة الحال، تستحق قضية العمل والأجور الاهتمام الأكبر، ولأن تكون في مقدمة أجندة العدالة الاجتماعية، سواء في الحكومة أو القطاع الخاص.
الخلاصة هي أنه لا تتحقق العدالة الاجتماعية من تلقاء نفسها، وبخاصة في دولة مثل بنغلادش تسودها حالة عالية من الفقر منذ نشأتها، وحينما نتحدث عن دور للدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية فيها، فلا يعني ذلك أن الحكومة ستقوم بكل شيء. لكن عليها أن تمتلك الاستراتيجية والمشروعات التي تحقق ذلك، وأن تقدم حكومة ما بعد الشيخة حسينة معادلة اجتماعية جديدة، تنحاز فيها للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وأن تتجه للتحيز الإيجابي للضعفاء والمهمشين، وبقدر اهتمامها بزيادة قيمة ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، بقدر اهتمامها أن تستفيد منه الطبقات الفقيرة والمتوسطة بشكل أكبر يسمح بإعادة التوازن في المجتمع البنغالي.
حان الوقت ليكون للقطاع الخاص دور في تحقيق الدعم الاجتماعي، بمعناه التنموي، بجوار دوره في التكافل الاجتماعي، وأن تُوظَّف المساعدات والمعونات الخارجية لتصب في نفس الإطار، وليس وفق الأجندات الخاصة بالمنظمات الدولية، الحكومية منها أو غير الحكومية.
مشاركة الخبر: بنغلادش تنتظر العدالة الاجتماعية بعد إزاحة حسينة على وسائل التواصل من نيوز فور مي