العُنوَانُ والمَبدَأُ التَّوَاصُلِيُّ
إن العنوان في توجّهه للآخر يكشف عن مبدأ علمي تواصلي؛ إذ لا يخرج للمتلقي إلا بعد مراعاة حاله، والنظر في مقتضيات استقباله؛ ومن هنا اكتسب العنوان طابعاً تداولياً من هذا الجانب، وفي ضوء هذه التواصلية قد يصطدم العنوان بالقيمة الجمالية؛ ذلك أنَّ جعل العنوان لافتاً للانتباه، بحيث يصبح أكثر جمالاً، هو أمر قد يخرج عن نسقه، أو إطاره، وذلك كلما عمي العنوان في إثارته وجذبه؛ لهذا قد لا يدل العنوان على محتواه، وقد يكشف عن جزء منه، وقد يكون دالاً بامتياز، وربما أفصح عن مضمونه بشكل جميل ورشيق، فمن هنا تنبعث قيمته، وتزداد أهميته، وذلك عندما يجمع بين الغاية التواصلية التي هي إقناع المتلقي، والقيمة الجمالية التي هي إثارته وتشويقه، ومن ثم تتحقق بواسطته كثير من الوظائف التواصلية التي أشار إليها الناقد الروسي (رومان ياكبسون 1983) في كتابه (قضايا الشعرية) حينما لفت إلى الوظائف التفسيرية، والإفهامية، والانفعالية، والمرجعية، والتأثيرية، وما شابهها من الوظائف التي يكشف العنوان عن نقابها.
على أن العنوان في وظيفته التداولية ليس شرطاً أن يتوجه إلى متلقٍ معيّن، أو مخصوص؛ إذ يغلب على العناوين أن تكون شاملة لمخاطبين كثير، وهو ما يعزز من مبدأ العنوان العلمي، في كونه يخاطب عقولاً مختلفة؛ لهذا «لا تنحصر مادة العنوان فقط في توجهها إلى المتلقي القارئ، بل تصبح ذات سمات مميزة داخل نسق شامل يلعب فيه الجمهور بدل القارئ دوراً مركزيّاً، ويشمل هذا الجمهور كل الذين يتعاملون مع الكتاب: الناشر، الصحفي، صاحب معرض الكتاب، الباعة المتجولون، النقاد، الأب الذي يشتري كتاباً لابنه، الشخص الذي يهدي كتاباً لآخر، المؤسسات الثقافية، المكتبات، وغيرها»، وكأن العنوان لوحة فنية يمرّ بها الجميع، وينظر إليها الناس في مختلف فئاتهم، وشرائحهم.
إن العنوان حاضر في المؤلفات العربية منذ القديم، وقد كان حضوره متفاوت الأنواع والأشكال، متباين المقاصد والغايات، متنوع الوظائف والجماليات، و»لاشك أن العنوان يتمتع بموقع مكاني خاص، موقع إستراتيجي، وهذه الخصوصية الموقعية تهبه قوة نصية لأداء أدوار ووظائف فريدة في سيميوطيقا الاتصال الأدبي»، وهذا الموقع هيأ -في نظري- إلى أن يصبح العنوان شكلاً في بدايته، ثم أخذ ينحو إلى أن يكون علماً ذان شأن واعتبار، ثم نظرية تتوافر على مزيد من القوانين، والأفكار، والاقتراحات، «وأية نظرية في العنوان يجب أن تتأسس على ضوء المفارقة التي تطرحها مقارنته بعمله».
على أنه ينبغي أن يأتي العنوان في الأعمال الأدبية -سواء القديمة أم الحديثة، وسواء الشعرية أم النثرية- على قدرٍ عالٍ من الشعرية، وكلما كان العنوان ذا شعرية مراوغة -كما يصفه البعض- كان محققاً لجماليات أكثر، وغايات أبعد، ومن ينظر في عناوين كتب الأدب، واللغة عموماً، وكذلك الأعمال الأدبية الحديثة والمعاصرة سيلمس ذلك، ولعل من هذا القبيل العنوان الروائي الذي مر بأطوار مختلفة، جعلت منه عتبةً تستحق الاعتناء والاهتمام من صعد مختلفة: سيميائية، وتداولية، وشعرية، وغيرها، الأمر الذي يشير إلى أن العنوان لم يعد رمزاً دالاً فحسب، بل هو علم ذو أصول، ونظرية ذات أركان، ومن هنا أضحت العنونة في الحقل الأدبي أرضاً خصبة لمزيد من الجماليات والشعريات.
مشاركة الخبر: العُنوَانُ والمَبدَأُ التَّوَاصُلِيُّ على وسائل التواصل من نيوز فور مي