تفكير المهندسين.. بين الأنثروبولوجيا والفلسفة
توجد علاقة طردية بين أنظمة التفكير والتخصص الجامعي والوظائف المناسبة، وفي الغالب يمكن أن يلاحظ ذلك الأنثروبولوجي، ويتأملها الفيلسوف، وتؤكدها الدراسات الميدانية. فقد كنت ألاحظ قوة ارتباط التفكير أحادي الاتجاه لمتخصصي النحو والصرف والبرمجة والرياضيات، فنظام تفكير المتخصصين في هذه العلوم حدي وقاطع؛ لذلك بين أصحاب هذه التخصصات تقارب، إذ يمكن لمتخصص النحو أن يكون مبرمجًا ورياضيًا بسهولة، وحلولهم للمشاكل الإدارية واضحة ومباشرة وحادة.
وهذه الملاحظة تسري على المنصهر في تخصصه، ويستثنى منها من لديه وعي بنظام التفكير وتأثيراته، ويتخلص منه ذاتيًا.
وفي المقابل لاحظت ارتباط نظام تفكير المهندسين بالقدرة على الغوص في التفاصيل وفهم تعقيدات حركة الأشياء دون الدخول في آليات عملها، فالمهندس مثلًا إذا دخل في المجال المالي أو الإداري والمهني سوف يتعرف تلقائيًا على تعقيدات المحاسبة وآليات صناعة القرار والنقاط العمياء داخلها ويعيد تنظيمها وحل مشكلاتها دون أن يضطر لمعرفة قوانينها ونظرياتها وتفاصيل عملها اليومي.
وهذا يعني أن التعليم يمكن أن يصنع أنظمة تفكير وإن بدا أنه يقدم معلومات يمكن تلقينها وحفظها واستظهارها، ويتيح للمتخصص نظام تفكير يوجه السلوك والأفكار بشكل عميق وعفوي وبارتياح وكأنه جزء من الشخصية.
ويعتبر تخصص الهندسة من العلوم الرفيعة والفلسفية التي تسهم بفعالية في تطوير المنظمات وتقليل التكاليف الكبيرة بأفكار بسيطة، وقد أكد عليها فلاسفة اليونان، وأثبتتها الدراسات الحديثة. وينسب لأفلاطون أنه كتب على مدخل أكاديميته: «لا يدخل علينا إلا من كان عالمًا بالهندسة». ومن المؤكد أن أفلاطون يقصد ربط التفكير المنطقي بين الفلسفة والهندسة؛ لما تتمتع به الهندسة من القدرة على حل المشكلات والتعمق في تعقيداتها والتمكن من طرح الفرضيات الناضجة.
ويرتبط علم الهندسة في عالم اليوم بقيم صنع القرار والإدارة والتنظيم والعمل الجماعي والإبداع، والقدرة على فهم شبكة الأمور المتداخلة واستيعابها وفكها وإعادة ترتيبها؛ وذلك لأن نظام التفكير الهندسي نظام مفتوح وشمولي وعميق في آن واحد، كما يجمع بين التفكير العلمي الحاد والأدبي المرن، وهو أحد أهم التخصصات التي تسهم في جودة الحياة إذا وجدت عقلية مستعدة لانعكاس هذا العلم على شخصية متعلمه وأسلوب حياته.
وبالتالي فإن دارس الهندسة يعد شخصًا مناسبًا لكثير من المهام في غير مجال تخصصه، ولكن ليس كل من درس الهندسة اكتسب مهارات تفكير تميزه عن غيره، ما لم يكن لديه نظام استعدادات نفسي واجتماعي وفكري يجعله مستعدًا لتعلم أقصى ما يمكن من العلوم والمهارات، ثم هضمها وإعادة إنتاجها في مجالات أخرى غير الهندسة.
وارتبط مفهوم الهندسة في الذاكرة الشعبية العربية بالبراعة والإتقان والإبداع والدخول في التفاصيل المعقدة التي لا يقدر عليها إلا القلة، ثم التعامل معها بنجاح، ولذلك يوصف بالهندسة والمهندس البارعون في إدارة الملفات الكبرى، كما يوصف لاعب الكرة والموسيقي البارعان بالهندسة، بل صارت كلمة «هندسة» في بعض المجتمعات العربية من عبارات التأدب في الحديث.
وعلى الرغم من كثرة فروع علم الهندسة، إلا أن القاسم المشترك بينها يكمن في معرفة القوانين الرياضية والفيزيائية التي تتحرك بها الأشياء، وهذه هي فلسفة الهندسة، أما التخصص في الفروع فيركز على المعالجات التقنية التنفيذية، ومن ثم فإن متخصص الهندسة يفترض فيه أنه يمتلك مهارات أكثر من غيره في إدراك الأبعاد الكلية للمؤسسات التي يعملون بها، وأول ما يستوعبونه تلقائياً هو ظاهرة القوانين التي تتحرك بها القطاعات المالية والإدارية والفنية، ويلتقط الفراغات والفجوات التي تعيق تطور العمل؛ وهذا أحد أسرار الصعود الإداري والقيادي.
وينظر للهندسة أحياناً بوصفها حقلًا اجتماعيًا أكثر مما هو تخصص تقني؛ ويقول كريس إليوت عن فلسفة الهندسة: «العنصر الذي يجعل الهندسة مختلفة عن باقي العلوم والحرف هو التصميم... أن الهندسة في الأساس مجال اجتماعي أكثر من كونها تخصصًا تكنولوجيًا... فالهندسة عبارة عن تغيير العالم الطبيعي لجعله أفضل، لتلبية احتياجات البشرية؛ فالمهندسون يقومون بإعادة تشكيل هذا المكان بحيث يعمل بشكل أفضل مما كان عليه في الأصل، لتلبية احتياجات مجموعة فرعية على الأقل من البشر... إذاً فالهندسة، من الناحية العملية، لا فائدة منها ما لم تكن حساسة لما يريده المجتمع وسيستخدمه... ويجب أن يكون التصميم الهندسي حساسًا للسياق الاجتماعي، لكل ما يصممه، وكيف سيتم بناؤه»()، وما يقال عن الهندسة يمكن أن يقال عن الاقتصاد؛ لأنه لا يوجد اقتصاد دون مجتمع، كما أنه لا مجتمع دون اقتصاد، فكلاهما يتحرك بقوة دفع من قيم الآخر، من حيث التأثر والتأثير.
وقد أُجريت دراسات كثيرة للتعرف على ما يميز تخصص الهندسة عن غيره، ويرى بعض الباحثين أنه «غالبًا ما تؤكد الجهود المبذولة لتميز الهندسة عن التخصصات الأخرى، بما في ذلك العلوم بشكل عام، أن ممارسة الهندسة تنطوي على أمرين أساسيين: أولاً، أن المهندسين أكثر تفاعلاً مع «العالم الواقعي» من العلماء الأكاديميين. وثانيًا، أن تفاعلهم مع المعرفة واليقين دائمًا ما يكون موجهاً بالمطالب الذاتية أو المعيارية للمجتمع.
فالمعرفة الهندسية غالبًا ما يتم تفعيلها استجابةً للمشكلات المجتمعية، وتوجهها رغبات المجتمع وقيمه أيضًا، بل إن المشكلات الهندسية، وما يعتبر حلولًا مقبولة لها، تعتمد بشكل صريح على أحكام قيمة، مفروضة عادة من الخارج، وتوجه المهندسين حتى أولئك من ذوي الخبرة الكبيرة. وهذه الأحكام القيمية مستمدة من النتائج الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية المتوقعة لتنفيذ حلول للمشاكل الهندسية. ومن ثم فإن المهندسين يستخدمون المعرفة العلمية كأدوات لتحقيق أهداف خارج مجالات العلوم أو الهندسة»().
ويقول بيرسي بيش شيلي: إن المهندسين هم المشرعون غير المعترف بهم في العالم... ويأخذ المهندسون جميع المعلومات، ويحللون جميع البيانات، ويحددون المخاطر، ويقضون عليها إن أمكن، ثم يخففون ويتحكمون في المخاطر المتبقية، قبل اتخاذ القرارات. إن فهم ما هو في خطر يجعل المكافأة أكبر بكثير. ويمتلك المهندس عقلاً متسائلاً، ولديه فضول لمعرفة الأشياء من حوله وكيفية عملها. والحاجة إلى الفهم لا تترك مهندسًا أبدًا. إذ يعتقد المهندسون أن هناك دائمًا حلاً لكل مشكلة؛ والبعض يتطلب إيجاد حل، والبعض الآخر يتطلب فقط منظورًا جديدًا لما هو مطلوب للنجاح؛ لا ينفد المرء أبدًا من الموارد، فقط بسبب سعة الحيلة ().
وحظي موضوع تأثير تخصص الهندسة على المجتمع والاقتصاد، وتأثيره في أسلوب تفكير المهندسين باهتمام مراكز الدراسات، وقد أجرت الأكاديمية الملكية للهندسة دراسة عن موضوع «التفكير كمهندس» للتعرف كيف يرى المهندس العالم بشكل مختلف عن المعماري أو المحامي مثلاً. وقد حددت الدراسة ست عادات هندسية للعقل مجتمعة، تصف الطرق التي يفكر ويتصرف بها المهندسون، وهي:
منظومة التفكير: رؤية الأنظمة والأجزاء بأكملها وكيفية اتصالها والتعرف على الترابطات.
اكتشاف المشكلات: توضيح الاحتياجات والتحقق من الحلول الحالية، والتحقق من السياقات والتحقق منها.
التصور الدقيق: القدرة على الانتقال من المتخيل إلى الملموس.
التحسين الدائم: محاولة بلا هوادة لتحسين الأمور عن طريق التجربة والتصميم والتخمين.
حل المشكلات الإبداعي: تطبيق تقنيات من تقاليد مختلفة وتوليد الأفكار والحلول.
التكيف: الاختبار والتحليل والتفكير وإعادة التفكير().
لذلك يوجد ارتباط بين النجاح في العمل المالي والمصرفي لمن خلفيتهم التعليمية تخصص الهندسة، بل يلحظ هذا الاتجاه عالمياً وعربياً ومحلياً، ومن خلال فحص السير الذاتية لمئات الشخصيات المالية والمصرفية العربية لوحظ وجود أكثر من مئة منهم ذات خلفية تعليمية هندسية.
وفي السعودية يوجد قيادات تولت مناصب اقتصادية وهم من خلفيات هندسية، مثل: جماز السحيمي، مؤسس هيئة سوق المال ورئيسها الأول، وفهد المبارك، محافظ البنك المركزي السعودي، ورمزي نصار، رئيس مجلس إدارة بنك الاستثمار، وخالد نحاس، عضو مجلس إدارة سابك.
ويوجد أجيال جديدة من المهندسين الشباب المنغرسين في المؤسسات ممن يعملون بصمت وإنكار للذات وعزوف عن البروز، بسبب رؤيتهم لإنجازاتهم الكبيرة أنها من طبيعة العمل اليومي؛ لذلك يصعب على المنظومة المحيطة بهم من اكتشاف دورهم الرئيس.
وبالتالي، نعود من حيث بدأنا ونقترح ألا يدخل المجالات الإبداعية ولا يتولى الملفات الصعبة وصناعة القرار إلا من كان مهندسًا أو يتمتع بمهارات تفكير واسع ولديه القابلية للتكيف مع بيئات العمل المختلفة ويفهمها، ثم يطورها، كما يفعل فلاسفة الهندسة.
وقد يكون من المناسب تدريس مقرر الهندسة في التعليم العام وجعله خيارًا متاحًا لجميع التخصصات الجامعية واتباع منهجية تخصصات الهندسة في مقابلات التوظيف والدراسات العليا وجعلها تطبيقات عملية آنية؛ بحيث يتاح للمتقدم مدة ثلاث ساعات يكتب فيها أفكارًا أو حل مشكلات في مجال توظيفه بدلًا من أسلوب الدردشة وطرح أسئلة يمكن التلاعب بالإجابات حولها.
د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقيرمشاركة الخبر: تفكير المهندسين.. بين الأنثروبولوجيا والفلسفة على وسائل التواصل من نيوز فور مي