عن هاشم علي الذي عرفت من زهرة الحنون إلى مقام الألفة

عن هاشم علي الذي عرفت.. من “زهرة الحنُّون” إلى مقام الألفة

تم نشره منذُ 1 اسبوع،بتاريخ: 07-11-2024 م الساعة 05:14:39 الرابط الدائم: https://newsformy.com/news-2148185.html في : اخبار محلية    بواسطة المصدر : هورايزونس


كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني

من النصوص الباكرة التي كتبتها، نص أسميته “زهرة الحنُّون” وأهديته لهاشم علي، لأن لوحاته عن المكان والنساء كانت تشدني الى فرشاته شديدة الالتصاق بالوجوه القريبة منا. أما ما دفعني لاختيار هذا العنوان للنص، أن “زهرة الحنُّون” ارتبطت عندي بتلك الرائحة العطرة لزهور بيضاء صغيرة وناعمة تخرجها أشجار الحنّاء على هيئة عناقيد متفرقة في الأغصان الكثيفة، وكنت أشتَمّ رائحتها في ملابس والدتي، بُعيد عودتها من الوادي أو الجبل وفي كُمّها بعض أغصان الحناء وملتصقة بها تلك الزهرات البيضاء، وأن الفلاحات اللاتي استنطقتهن مثل تلك اللوحات، في تجربته خلال عقد الثمانينيات على وجه الخصوص، فلم أكن أبصر تفاصيل وجوههن فقط، وانما أشتَمّ فيها مثل تلك الرائحة. 

المهم في النص- الذي لم ينشر في أي من مجموعاتي الأربع المطبوعة، وإن نشر وقتها في إحدى الصحف المحلية- كان استحضار هاشم فيه كجزء فاعل من استحضار المدينة بتفاصيلها اليومية، والتي تغلغلت في ذاكرته اللونية منذ جاءها شاباً في العشرين من عدن، بعد أن تقطعت به سُبل العيش في حضرموت، التي وصلها قبل منتصف الخمسينات بقليل من إندونيسيا برفقة أسرته، وبعد وفاة الأب ترك الدراسة وهو في العاشرة، وحاول أن يقتات من مهنة الحفر على الخشب التي تعلمها من أستاذ حضرمي اسمه الجفري، لكنها ضاقت عليه هي الأخرى، فانتقل مع أخيه الأكبر إلى أبين، ثم إلى عدن، حيث استقر عبدالله الدويلة هناك، وعُرف لاحقاً كصحافي محترم. واختار هاشم مدينة تعز مستقراً له في العام 1965، ومنذ انتقل للعيش فيها، لم يبرحها قط؛ رسم كل تفاصيلها من بشر وحجر… قال لي ذات مرة: تعلمت من تعز كمكان أكثر مما كانت ستعلمني أكاديمية فنون في أي بلد، في الغرب أو الشرق، وفي تعز دشَّن معرضه الشخصي الأول في العام 1967.

قبل أكثر من أربعين عاماً، وتحديداً في العام 1978، كتب الدكتور أبوبكر السقاف عن “الإنسان والأرض في فن هاشم علي” في كتابه– كتابات1:

“يقول الأخ الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه “القصة اليمنية المعاصرة” 1977، إن ظهور محمد عبدالولي في عالم القصة اليمنية المعاصرة أشبه بنبتة تخرج من بين الصخور، ويصدق هذا على فن هاشم علي، بل إني أبحث عن شيء أصلب من الصخر لأداء المعنى الذي أريد أن أعبِّر عنه. لقد بزغ هاشم كالنور في قلب الظلام. وإذا كان محمد عبدالولي قد وجد أمامه طريقاً طرقه كثيرون، على تفاوتٍ في حظهم من النجاح، فإن هاشم هو البداية، وكل بداية شاقة. فقد بدأ يلعب بالألوان ويحاور صَبِر، وأطياف فتياته، في وقت لم يكن للرسم فيه أي وجود في الجزء الشمالي من الوطن. فقد حط رحاله في تعز عندما كان الرسم سمة وثنية، وكان الشمال خالياً من لوح واحدٍ أو تمثال حديث”(*) الدكتور أبوبكر السقاف- كتابات مؤسسة 14 اكتوبر عدن 1981 ص108.

كنت بين زيارة وأخرى لي إلى تعز أعرج عليه، فنرتب موعداً صباحياً للتجول، أو مقيلاً بمسكنه، أو عند أحد أصدقائه وهم كُثر. نتجول في حواريها القديمة وأسواقها ونأكل في مطاعمها الشعبية، قبل أن يعود بقاته باكراً إلى حجرته المتواضعة، جوار مرسمه الصغير، واللذين فُصِلا عن مسكنه العائلي الضيق أصلاً. أما موعد دخوله للمرسم كان يتم عادة بعد العصر، وهي عادة لا يكسرها سوى مودة جليسه أو زائره أو وجوده خارج المنزل. أما من اعتاد عليهم من زوّاره الدائمين، فكان يتركهم لإكمال مقيلهم في الحجرة المتواضعة، وهناك في المرسم يبدأ منهمكاً لساعات طويلة بتصريف أفكاره الفنية على الأحبار والورق والأقمشة؛ ذاته المرسم الذي احتشدت فيه اجسادنا ذات ربيع من العام 2000، برفقة الدكتور حاتم الصكر، لاكتشاف عوالمه.

  في بيته المستأجر والبسيط في منتصف عقبة شارع 26 سبتمبر باتجاه “النقطة الرابعة” (المستشفى اليمني السويدي) وعُرْضِي الجحملية صعوداً، أو هبوطاً باتجاه المدينة، تصالح بشكل عجيب مع ضيق المسكن، ومع ضجيج العربات والدراجات النارية، التي ترتفع أصوات ماكيناتها بسبب أحمال صعود العقبة، بل واعتبرَ هذا الضجيج جزءً من تمرين الأذن اليومي على الأذى الجميل.

فتحت لوحات هاشم علي، بتعدد أسلوبياتها، للدارسين متنفساً قرائياً وتنظيرياً، سهَّل على الكثيرين منهم موضعتها في سياقات التأثير المدرسي لتيارات الفن المعاصر، والتي اتصل بها هاشم بواسطة القراءة وليس على مقعد الدرس
  لم يكن فقط، رساماً ملهماً ورائداً للتشكيل الحديث في اليمن كما يعدّه الدارسون والمهتمون، وتتلمذ على يديه عشرات الفنانين المبتدئين الذين صار بعضهم أسماءً رائجة داخل اليمن وخارجها، بل كان مفكراً حقيقياً وفيلسوفاً نابهاً يحيط بتاريخ الفنون والحضارات الإنسانية بشكل لافت، وساعده في ذلك إتقانه للإنجليزية التي كان يقرأ بها.

  انحاز للسرديات والشعر الحديث والموسيقى، فكان لا يتم حديث معرفي معه إلا واستشهاداته الحية من أعمال روائية أو أعمال شعراء وموسيقيين، حاضرة على لسانه، لتعزيز أفكاره وما يريد إيصاله لمستمعه.

  برغم استطالة تجربته الفنية التي امتدت لقرابة نصف قرن ومنحته شهرة فائقة، لم يركن عليها في الأصل، ظل حتى آخر أيامه يجدّد في موضوعاته وفي منظوره اللوني، الذي صار أكثر بهاءً وفرحاً وشاعرية، حتى وهو يرسم قرى الجبل، التي سترد إحداها مع هذه الاستعادة في ذكرى رحيله الذي كان في 7 نوفمبر/ تشرين ثاني 2009.

  من الحكاية الشعبية استلهم، ومن السخرية اللاذعة قدّم بصريَّاته التي تشبه توجعَّات البسطاء من الناس، ومن الطبيعة استنطق لامرئياتها المحتشدة في اللون؛ رسم الأزقة والمساجد وبائعات الفواكه وورَّادي الماء والعتّالين والفلاحين وضاربي الطارات (الدفوف) من المتصوفة والدراويش، ورسم الصيادين ونساء الأرياف… رسم القرى والحيوانات. رسم كل ذلك بالزيت والحبر الأسود، ففتحت لوحاته، بتعدد أسلوبياتها، للدارسين متنفساً قرائياً وتنظيرياً، سهَّل على الكثيرين منهم موضعتها في سياقات التأثير المدرسي لتيارات الفن المعاصر، والتي اتصل بها هاشم بواسطة القراءة وليس على مقعد الدرس.

  من أحجار تعز الملونة أنجز “جدارية الشمس”، في إحدى منتزهاتها بالقرب من كلية الآداب، قبل أن يكرِّمه فنانوها ومثقفوها في 2012، برسم جدارية له في جولة البريد لمناسبة ذكرى رحيله الثالثة، وبعدها بقليل انتفض الجميع تضامناً مع هذه الجدارية، التي تعرضت للتشويه من قبل ظلاميين يكرهون الفن ويجرمونه. 

  رسم ونحت كل شيء له صلة بجمال الإنسان والطبيعة، حتى وهما في أشد بؤسهما، ولا تخلو عشرات من لوحات تلاميذه من رسامي وفناني اليوم، من مسحاتها الروحية والجمالية، حتى وهم يحاولون العمل بنصيحته التي تحثهم على البحث عن شخصياتهم الخاصة، بعيداً عن تأثيراته وتأثيرات غيره.

  ولا يخلو مسكن لأحد من أصدقائه القريبين من بوروتريهاً جميلاً لشخصه أهداه إياه هاشم علي، تعبيراً عن مودة خاصة. وهنا أتذكر أنه في إحدى جولاتنا الصباحية بالقرب من السوق المركزي في العام 2003، أصَّر على دخولنا استديو تصوير قريب، وطلب من صديقه المصور التقاط صورة جانبية لي دون أن يخبرني لماذا؟ وفي اليوم التالي، أعطاني نسخة من الصورة التي وضعتها في الحقيبة ونسيت أمرها.

  وبعد شهرين تقريباً فاجأني الصديق القاص محمد عبدالوكيل جازم بمظروف مغلَّف حمله معه من تعز، ومرسل من الأستاذ هاشم… فقد كان بداخله، وعلى ورق مقوى خاص، بروتريهاً جميلاً لي. أسعدني أمر أن وجهي رُسم بريشة العظيم هاشم، وأنه بهذه اللوحة يعمّدني صديقا مقرباً، كما قرأ الأمر صديقنا المشترك الراحل البهي محمد عبدالباري الفتيح، الذي كان قريباً جداً من هاشم كصديق، وجمعتنا الثلاثة لقاءات كثيرة، و”حشوش” مبجَّل.

  كان يحب الناس ويحبونه بشكل تلقائي؛ يعرف الناس بأسمائهم وألقابهم ويمازحهم بتهذيب شديد في محلاتهم وخارجها في الشارع والسوق. قلت له ذات رفقة في شارع التحرير الأعلى: هل يعرفونك كفنان يا أستاذ؟ قال: أظن أن أكثرهم لا يعرفون حتى اسمي، ويعرفون شكلي من كثرة مروري اليومي في ذات الشوارع والأماكن.

The post عن هاشم علي الذي عرفت.. من “زهرة الحنُّون” إلى مقام الألفة appeared first on بيس هورايزونس.

مشاركة الخبر: عن هاشم علي الذي عرفت.. من “زهرة الحنُّون” إلى مقام الألفة على وسائل التواصل من نيوز فور مي

local_library إقرأ أيضاً في آخر الأخبار

وزارة الثقافة تنظم حفلا لمنوعات الزمن الجميل على مسرح الجمهورية

وزارة الثقافة تنظم حفلا لمنوعات الزمن الجميل على مسرح الجمهورية

منذُ 12 ساعة

تحت رعاية وزارة الثقافة تقدم دار الاوبرا المصرية برئاسة الدكتورة لمياء زايد حفلا بعنوان منوعات من الزمن الجميل تحييه...

دار الكتب تكرم سعدية بهادر اعرف سيرتها الذاتية

دار الكتب تكرم سعدية بهادر اعرف سيرتها الذاتية

منذُ 12 ساعة

أطلقت دار الكتب والوثائق القومية برئاسة الدكتور أسامة طلعت مؤتمر أدب الطفل والذكاء الاصطناعى المصدراليوم السابعدار...

ماذا قدمت وزارة الثقافة فى مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان

ماذا قدمت وزارة الثقافة فى مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان

منذُ 12 ساعة

خلال شهر سبتمبر الماضى أعلن الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة عن انطلاق فعاليات وزارة الثقافة المصرية المشاركة...

تزوير أعمال مشاهير الفن التشكيلى بيكاسو وفان جوخ الأبرز ضمن القائمة

تزوير أعمال مشاهير الفن التشكيلى بيكاسو وفان جوخ الأبرز ضمن القائمة

منذُ 12 ساعة

أثار الكشف عن شبكة ل تزوير الأعمال الفنية فى إيطاليا الكثير من الشكوك حول استمرار تزوير الأعمال الفنية المصدراليوم...

القسام اسم وسيرة عاشا عمرا فوق عمر صاحبهما فكيف رثاه الشعراء
القسام اسم وسيرة عاشا عمرا فوق عمر صاحبهما فكيف رثاه الشعراء
منذُ 12 ساعة

لقد أحدث استشهاد الشيخ عز الدين القسام هزة عنيفة في نفوس الفلسطينيين الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 20 نوفمبر عام 1935...

لماذا يتطلب السعال المستمر ومشاكل التنفس عند الأطفال عناية طبية عاجلة
لماذا يتطلب السعال المستمر ومشاكل التنفس عند الأطفال عناية طبية عاجلة
منذُ 12 ساعة

تشهد حالات الالتهاب الرئوي ارتفاعا في البلاد وخاصة في الولايات الشمالية بسبب انخفاض درجات الحرارة وارتفاع مستويات...

widgets إقراء أيضاً من هورايزونس

تانكا
صغيرة على الحلم
صنعاء ترتيبات لتنفيذ المبادرة الوطنية لدعم المنتج المحلي
خروج مليوني بالعاصمة صنعاء في مسيرة مع غزة ولبنان على درب الشهداء حتى النصر