“المرهقون”… فيلم روائي في كاميرا وثائقية
شكرا لمتابعتكم خبر عن “المرهقون”… فيلم روائي في كاميرا وثائقية
يرى القائمون على الفيلم اليمني “المرهقون” (91 دقيقة) وجمهورهم اليمني أينما كانوا الأهمية الوثائقية المشتمل عليها، وهم يتابعون فيلماً روائياً يحكي أزمة عائلة تعيش في عدن.
وعادة يستحضر الناس الجانب الوثائقي في فيلم روائي حينما يصبح أرشيفاً كلاسيكياً، غير أن الأمر لم يكن كذلك حين عرض “المرهقون” قبل أيام في المبنى 15 من الحي الثقافي كتارا في الدوحة.
كان الجمهور يثمن عناية المخرج عمرو جمال (1983) بتصوير معالم شعبية من مكتبة ومدرسة ومستشفى وشارع ما زالت في مكانها رغم الحرب التي أطاحت البلاد، بل عامرة بأنفاس حية لبشر مرهقين، يريدون العيش بما لا يجرح أرواحهم.
أكثر من ذلك، فقد بات معروفاً أن القصة التي قام عليها الفيلم حقيقية، يسردها المخرج دائماً وتفيد بأن الانهيار الاقتصادي بعد 2019 دفع أحد أصدقائه إلى إجهاض زوجته لعدم قدرته على تحمل تكاليف ضيف جديد على بلاد طحنت الحرب فيها الأرض ومن عليها.
لذا، بدا “المرهقون” القادم من بلاد ذات تراث سينمائي خجول بطاقة تعريف جيدة بسينما واعدة، تحمل رسالة قوية إلى بريد العالم من دون أن تكون خطابية رنانة، منذ عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي الدولي الثالث والسبعين العام الماضي.
القصة الحقيقية لا تكتسي قيمتها السينمائية من ذلك، بل من القدرة الإخراجية على تحويل النص إلى قيمة بصرية وحوارية حيوية، وصدق الممثلين في أداء أدوارهم ببساطة.
المخرج عمرو جمال هو كاتب مشارك لنص الفيلم، وهو القادم من تجربة غنية في المسرح والتلفزيون والفيلم الوثائقي. ولعل شغفه المسرحي أعطى الحوارات ميزة عوضت الإمكانات التقنية، بين الزوجين خالد حمدان في دور أحمد سائق الباص العمومي وعبير محمد في دور إسراء، اللذين يقعان تحت ضغط ساحق ما إن تبين أن إسراء حامل.
كما استثمر المخرج انقطاع الكهرباء، وهو الأمر اليومي الذي يعيشه الناس، وهو هنا يجعله مثل حركة القطع المونتاجي، حيث نرى انفعالات الأشخاص العادية والمغفلة في هذا الشأن الذي يتكرر، لكنه أحياناً قطع يطول فتصبح الحياة ثقيلة ورطبة وموترة للأعصاب وتنعكس على أجساد الممثلين.
هذه الحال لا تتفوق بالطبع على طابور الماء الذي يتزاحم فيه العباد للحصول على حصة من ماء الشرب العزيز. كل هذه يوميات يمر بها سائق الباص العمومي الذي لديه ثلاثة أطفال، مسكون بمصيبة زوجته الحامل، ولم يكن ينقصه سوى أن تضرب باصه سيارة ميليشيا وتمضي كأن شيئاً لم يحدث. كان الباص وسيبقى منصة حوارات حيوية تلاحقها الكاميرا وهي تقطع الشوارع.
هبطت على حياة الزوجين ستارة سوداء، دفعت الزوج لأن يكيل لزوجته تهم الإهمال، لا بل استعمل يده في تعنيفها.
وإذ طرقا عدة سبل كان أهمها صديقتها الطبيبة منى التي رفضت رفضاً قاطعاً التخلص من روح، ولجوءهما بالتالي إلى رشوة نساء قابلات لإجهاضها سراً، ثم اكتشاف الطبيبة أمرهن متلبسات وطردهن، ومن ثم موافقتها على إجراء العملية.
كشفت الحرب الأهلية خروقات واسعة في الحياة المجتمعية، كانت قصة الزوجين وجنينهما الذي يتشكل بؤرة أضاءت العوار الفادح الذي طاول المؤسسات، فصارت أشكال الفساد والرشوة والاستقواء بنسب مختلفة بين مناطق اليمن تتسع كلما انهارت الحال الاقتصادية وتوسع نفوذ قوى ما قبل الدولة، من قبليات ومليشيات.
ومن يوصفون عادة بالطبقة الوسطى، أي التي يمكنها تدبر شهورها وتعليم الأولاد، يخشون كل لحظة من انكشاف الغطاء الاقتصادي، لذلك دارت قصة الفيلم حول أزمة وجودية تتعلق بقدوم إنسان إلى واقع ينبغي ألا يأتي إليه.
صار الروح مجهول الملامح الذي يتشكل في رحم قادراً على النبض باسم ثلاثين مليون يمني، قد يجمعون على أن أحلامهم أجهضت وقد لا، لكن الجميع موقن أن يمنهم السعيد ليس سعيداً الآن.
دخل عمرو جمال قبل هذه التجربة واحدة أخرى عام 2018 بفيلمه الأول “10 أيام قبل الزفة”، الذي رشح لجائزة أوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وكان يحكي عن عروسين يريدان إتمام زفافهما بينما الحرب تحول دون ذلك، بما في ذلك من مزيج كوميدي درامي.
بعد خمس سنوات، كان المخرج مع جيله من الفنانين ومن شباب أصغر يعاينون أسوأ مراحل الحرب، المتمثلة في الأفق المسدود للحل السياسي وترك الشعب نهباً للانهيار الاقتصادي واتساع قاعدة ما دون حافة الفقر، وغياب الخدمات الحيوية التي يجب أن تتكفل الدولة الغائبة بها.
لذلك، عكس “المرهقون” قطعة روائية جيدة الأداء، ومن فرط بساطتها وحقيقيتها، نسي الممثلون من كبيرهم إلى صغيرهم أنهم يؤدون أدواراً.
مشاركة الخبر: “المرهقون”… فيلم روائي في كاميرا وثائقية على وسائل التواصل من نيوز فور مي