مُبصِرٌ في قرية العميان
"التعدّي على المبادئ والقيم الأُسرية في المجتمع المصري بهدف الإخلال بالنظام العام والإضرار بالسلام، ونشر، بسوء قصد، أخبار كاذبة من شأنها تكدير السلم والأمن العام، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة البلبلة بين أطياف الشعب المصري". تلك هي الاتهامات التي وجّهتها النيابة العامّة (قبل أيّام) إلى طبيبة مصرية اختصاصية في التوليد وأمراض النساء، لأنها بثّت فيديو في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، ذكرت فيه أنها صادفت في عملها حالات عدّة لحمل فتيات وسيّدات سِفاحاً خارج نطاق الزواج.
كان غرض الطبيبة وسام شعيب التنبيه إلى حالتَي التردّي الأخلاقي والانحلال الأسري اللتين بدأتا تتفشيان في المجتمع المصري، وخصوصاً بين الطبقات الفقيرة. وهو أمر جدير بالانتباه، بل والهلع، فإذا كانت طبيبة واحدة تشير إلى بضع حالات صادفتها خلال فترة قصيرة، فلنا أن نتخيّل عدد الحالات في العام الواحد، ثمّ مضاعفة العدد ربّما آلاف المرّات، حسب عدد الطبيبات والأطباء المتخصّصين في الولادة والأمراض النسائية في مختلف أنحاء مصر. ولا حاجة إلى التذكير بأن ذلك كلّه يتعلّق حصراً بما يظهر من حالات أو يصل إلى المشافي والعيادات النسائية. تُرى، كم عدد الحالات التي لا تُعرَف، ولا تكشف؟
ليست المأساة الحقيقية في زيادة حالات الحمل غير الشرعي أو الانحلال الأخلاقي فقط لدى قطاعات من الشعب المصري، فهي ظاهرة ملازمة للوجود البشري، وموجودة عند الشعوب كلّها، وإنْ بدرجات متفاوتة. أمّا المأساة الفعلية ففي طريقة التعاطي في مصر مع فيديو الطبيبة، وتحديداً من الإعلام والدوائر الرسمية. ويكفي الاطلاع على الاتهامات التي وجّهتها النيابة العامّة إلى الطبيبة للتعرّف إلى العقلية التي تتعامل بها الدولة في تلك القضايا المجتمعية، فبدلاً من التحرّي وتتبّع تلك الحالات التي أشارت إليها وسام من طرفٍ خفيٍّ، والضرب بيد حديدية على أيدي من يمارسون الفحشاء أو زنا المحارم، وحماية ضحاياهم، انشغلت أجهزة الأمن، ثمّ الدوائر المعنية في القضاء المصري، بملاحقة الطبيبة وإدانتها باتهامات أقرب إلى الشعارات والكلام العام، فافترضت النيابة العامّة أن الطبيبة وسام نشرت "أخباراً كاذبة" قبل التحقّق من مدى صدقها، وأن ذلك كان "بسوء قصد"، وبغرض "إثارة البلبلة".
تلك الاتهامات الرسمية هي نفسها مدعاة لمقاضاة النيابة العامّة بتهمة التشهير والطعن في سمعة مواطنة، وافتعال جرائمَ لم ترتكبها بغير أساس ولا دليل، سوى افتراضات تفتقر إلى أيّ شواهد. وإذا كان هذا هو موقف القضاء المُفترَض فيه الاستقلال والدفاع عن حقوق المواطن الأساسية، فليس مستغرباً موقف الإعلام الموالي، الذي سارع لشنّ حملة "حرق" للطبيبة. وكما فعلت النيابة العامّة بتكرار القوالب الجاهزة من اتهامات جوفاء ومطاطية لا يمكن إثباتها، لم يقصّر الإعلام في إلصاق أبشع الصفات بالطبيبة وسام. وتحوّلت السيدة الغيورة على دينها وأخلاق مجتمعها مارقةً وعميلةً، بعد أن خرجت عن ناموس العمل الوطني، وكسرت الخطّ الأحمر الرسمي بعدم كشف أيّ أخطاء أو سلبيات.
الغريب أن أحداً من هؤلاء المتربّصين كلّهم الذين تطاولوا على السيدة البريئة لم يسأل عن الوقائع التي ذكرتها رمزاً وليس صراحة. لم يبادر أيٌّ من الذين شنّوا حملة شعواء لشيطنة الطبيبة بالاستفسار عن حقيقة ما قالت، أو حتى دعوة المؤسّسات التربوية والدينية والاجتماعية المعنية بتلك القضايا للتحرّك وتقصي الحقيقة. وما يدعو إلى الحزن أن تلك المؤسّسات لم تحرّك ساكناً، ولم تخطُ أيّ خطوة في هذا الاتجاه، كما لو كنا في قرية عميان، يستمتع أهلها بالعمى ويفقؤون عين المُبصِر.
مشاركة الخبر: مُبصِرٌ في قرية العميان على وسائل التواصل من نيوز فور مي