من أجل حفنة دقيق
"على غير العادة، يبحث الجميع من حولها عن الدّقيق، يريد كلُّ واحدٍ ولو حفنةً منه، ليعدّ خبزاً لصغاره الجوعى، ولكنها تقبع في خيمتها ولا تعبأ بما يعانيه الآخرون، وتقتات على الماء وقليل من العشب البرّي الذي كانت تجمعه من حول الخيام، وحيث كانت تطهوه فوق النار وتأكله بالملعقة. أمّا بعد أن وهنت قواها، فقد أصبحت تأكله من دون أن تطهوه، فتلوكه بين أسنانها وتزدرده بصعوبة، لكي تسدّ عواء بطنها الخاوي، فهي قد حرّمت الخبز على نفسها، وكانت، حتى وقت قريب، تعدّه حين يتوفّر بعض الدقيق لها، وحيث كانت تحصل على حصّتها منه من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتعدّ الخبز على مهل، بل ببطءٍ لا يُوصف، وكأنه آخر مهمّة تقوم بها، وفيما تُتمتم ببعض الأناشيد الحزينة، وتنادي بأسماء أشخاصٍ لا تراهم، حتى إذا ما انتهت من إعداده وأصبح أمامها عدّة أرغفة ساخنة، تبدأ توزيعها على المارّة أمام خيمتها، ثم تحمل رغيفين وتسير على غير هُدى، ولا أحد يعرف أين تختفي، ولكنّها تعود، في آخر النهار، دونهما، وقد بدا عليها التّعب، وحاول أحد الصغار تتبّعها ذات مرّة، فاكتشف أنّها تسير حتى تصل إلى الحدود الفاصلة بين شمال غزّة وجنوبها، وهناك تقف تحت شجرة عملاقة، وتبكي وتنادي باسمين حفظهما كلّ أهل المخيم، وتترك الرّغيفين وتعود أدراجها.
لا أحد يعرف كيف استقرّت في خيمةٍ في هذا المخيّم، وظلّت أخبارها غامضة عن أهله، حتى تحدّث أحد الوافدين بعائلته إلى المخيم، وقد عرفها لأنها كانت جارته في حي الزّيتون، الواقع إلى الشرق من مدينة غزّة، فقال لجمع من الفضوليين الذين يروْن تصرّفاتها غريبة، نظراً إلى أنها لا تتذوّق الخبز أبداً: إنّ ولديها الشّابين قد ذهبا إلى الطريق التي كانت تصل منها الشاحنات المحمّلة بأكياس الدقيق، من جنوب القطاع إلى شماله، ورغم أنّها قد حاولت منعهما، إلاّ أنّ نداء الجوع كان أقوى من ندائها وهي تلحق بهما حتى غابا عن ناظريْها، فقد سمعت كثيراً عن الشباب والأطفال الذين قُتلوا وهم ينتظرون الشاحنات، وحيث تصيّدهم جنود الاحتلال بسبب جوعهم، فإذا ما اقتربت الشاحنات وحاولوا الركض نحوها لكي يظفر كل واحدٍ بكيسٍ من الدقيق يعود به إلى عائلته، أطلقوا النار نحوهم، إمّا من الطائرات المسيّرة الصغيرة التي تحوم فوق رؤوسهم، أو من قذائف الدبابات التي تحيط بالمكان، وتقبع فوق التلال، بحيث تراقب القوافل القادمة من بعيد، والتي غالباً لا تصل، وحيث يموت السائقون أو يولّون الفرار، فيما يختلط الدقيقُ بدم الجوعى الأبرياء، ويموت كثيرون منهم في مجازر متتالية، ولكن ذلك لا يمنع أن يعاود كثيرون الفعل نفسه، فيقفون من بعيد في انتظار، وهم يعلمون أن احتمالات عودتهم تكاد تكون معدومة، ولكن جوع بطونهم وبطون أطفالهم الذين تركوهم خلفهم، يدفعهم لكي يرموا أنفسهم إلى هذه التهلكة.
هكذا قُتل ولداها ذات يوم، وحين بلغها خبرُهما وعادا إليها محمولين على الأكتاف، وثيابهما ملوّثة بالدقيق والدم، أقسمت ألّا تذوق الخبز حتى تلحق بهم، وإنْ هي إلا أيام حتى أجبرهم الاحتلال على النزوح نحو جنوب القطاع، فحلّت في خيمة أقامها لها أهل الخير، حين رأوها وحيدة شاردة الذهن، لا تحمل متاعاً ولا تقوى على الكلام.
وفيما يبحث الجميع عن الدقيق هذه الأيام، ويروْنه أغلى ثمناً من الذهب، فهي تجلس في الخيمة وتلوك بعض الأعشاب، وتهتف باسميْ ولديها، وفيما ترى عجز الآباء حولها عن توفير الدقيق لأطفالهم، وتسمع بكاء هؤلاء الصغار طلباً للخبز، فهي تنظر إلى الأفق البعيد وتنتظر، وتتذكّر بيتها الصغير، وفرنها الطّيني الذي كانت تخبز فيه الخبز الشهيّ لجاراتها الطيّبات، ويأكل منه ولداها الشابان اللذان لم يتزوّجا لشدّة فقرهما، أشهى الخبز الذي تعدّه لهما، حتى إذا ما انتهت من إعداده، فهي تطهو القليل من الطعام فوق الفرن، حتى غاب البيت وغاب الولدان، وحرّمت على نفسها الخبز الذي أصبح حلماً لكل من حولها.
مشاركة الخبر: من أجل حفنة دقيق على وسائل التواصل من نيوز فور مي