الكاتب في القفص
الأمر الغامض الذي لم يجد بعدُ حلّاً لدى جميع الشعوب، هو مسألة الكاتب ومهامه، وقدراته. فالجميع تقريباً، من الطبقات والفئات والشرائح والأفراد، يحيلون التعبير عن المتاعب والمهام على عاتق الكاتب، فإذا حدثت انتفاضة، أو ثورة، أو احتجاج، أو وقع ظلم، أو انحرفت طبقة اجتماعية، فإنّه يُسأل: ماذا قلت؟ ماذا كتبت؟ كيف عبّرت عن ذلك؟ ما رأيك؟
يجب عليه أن يُبدي رأيه في حقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق العمّال، والفلّاحين، وعمّال النظافة. وفي الغالب فإنّه يخرج خاسراً في جميع الأحوال، إذ يستحيل أن يُرضي الجميع، ولهذا تجد أنّ معظم الناس بطبقاتهم وفئاتهم وشرائحهم غاضبون منه، وقلّما يرضى الجميع عنه، وربما وجدنا من يتّهمه بالتقصير.
ويلحق بالكاتب ما يكتبه، ونحن نشهد في عالمنا الكثير من حملات الإدانة، أو التبخيس، للروايات التي لا تلائم أفكار المجموع، أو بعض المجموع، في وسائل التواصل، وقلّما نلاحظ مثل هذا التحامل على المفكّرين من كافّة الاتجاهات، أو الفلاسفة. والطريف أنّ أكثر من يعيّرون الكاتب بالتقصير أو الصمت أو الهرب من المواجهة، وخاصّة في بلادنا، لا يقرأون. والتهمة الجاهزة في مثل هذه الحالة كانت: البرج العاجي، أي اتهام الكاتب بأنّه يعيش في عزلة عن المشكلات الاجتماعية.
لا يقبع الكاتب في البرج العاجي، ولا وجود لهذا البرج مطلقاً
والحقيقة المؤكّدة هي أنّ الكاتب لا يقبع في البرج العاجي، ولا وجود للبرج العاجي مطلقاً، وهذا افتراء وضعه المتشدّدون في كلا الاتجاهين اليميني واليساري، وربّما كان اليساريون أكثر تشدّداً في هجاء هذا البرج، وخاصّة في البلدان العربية، إذ كانت معظم الأحزاب الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية بعد عهد الاستقلال في منتصف القرن العشرين ذات ميول يسارية، أو أنّها ادّعت تبنّي مثل تلك الميول، بينما لم يكن لليمين، بمعناه السياسي المعروف في الأحزاب الغربية، وجود فاعل بحيث يحاول أن يفرض أجندات فكرية وفنّية وأدبية، على العكس من الغرب الأوروبي، أو أميركا التي شهدت حملة يمينية مناهضة للأدب والفنّ والفكر قادها السناتور مكارثي، على الغرار السوفييتي في الحملة اليسارية التي سُمّيت باسم جدانوف. واللافت أنّ حملتَي اليمين واليسار قد تزامنتا تقريباً، في منتصف القرن الماضي، وانتقلت عدواهما إلى المحيط البشري كلّه، بحيث خلقتا مناخاً عامّاً يُشبه محاكم التفتيش.
كان الهدف من اتهام الكتّاب بالتقصير، أو الانحراف عن المقاصد التي يجب على الأدب أن يتبعها من أجل الانخراط في دوائر المجتمع ومشاكله، إمّا وضعهم تحت الوصاية، وتشغيلهم في المجال الدعائي للحكومات والأحزاب بذريعة الدفاع عن الحرية في أميركا، أو الدفاع عن البروليتاريا في الاتحاد السوفييتي، أو سلبهم دورهم المتوقّع في الحياة العامّة، إذا لم يعلنوا ولاءهم.
لكلّ كاتب موقف بالتأكيد، بصرف النظر عن طبيعة هذا الموقف، إذ قد يكون يميناً أو يساراً، أو في الوسط. والخلاف بينه وبين الآخرين هو على موقفه، وقوله، وكتاباته، وليس على صمته.
وفي كلّ الحالات، فإنّ المشكلة التي يطرحها الأوصياء على الأدب والفنّ مشكلة مزيّفة، كما يقول المفكر الإنكليزي هربرت ريد، حيث لا يوجد أدب مع الإنسان، وآخر ضدّ الإنسان، ولا توجد إلّا صورتان للأدب والفنّ: أدب أو فنّ جيّد، وأدبٌ أو فنٌّ رديء.
* روائي من سورية
مشاركة الخبر: الكاتب في القفص على وسائل التواصل من نيوز فور مي