عدسة ريم الفيصل تنصت لنا
ظلال وأضواء ما بين الأسود والأبيض، الظل والنور، الظلام والضوء، فإنك تراها جميعا ً في أعمال الفنانة ريم الفيصل، وبصوت قوي وبهمسة صريحة ترى بأن كل صورة تحكي أضواءها حكاية وتحمل أصوات الصمت الداخلي، ففي هذه الصورة نرى حبلاً من الأضواء الذي يلتف حول قبة جامع آيا صوفيا في مدينة اسطنبول التركية، كذلك، ترى صورة الأرابيسك التي تم التقاطها من زاوية منخفضة تعكس الخط الرئيسي للقبة مشكلة قافية بصرية تمتع الناظر فيما تعمل الظلال على تحويل الصورة على نحو يأخذنا برحلة إلى عالم فريد. لمسات ضوئية، زجاج ملون ومصابيح متنوعة تجتمع معا ً في صورة واحدة بتوليفة متميزة، حيث تشكل هذه الصورة مقدمة مثالية لما تعكسه الفنانة ريم الفيصل عن فنها التصويري حيث تقول "لا شك أن أعظم إلهام لي هو االشعر العربي والصور المفعمة التي يعكسها. إن ما يستهويني في التصوير الفوتوغرافي هو قدرته على اختزال مجموعة من الأفكار الفلسفية والوجودية المعقدة في صورة واحدة أو ضمن مجموعة من الصور حيث أننا نجد هذا الشعر متجسدا ً في صورة متعددة، والذي ينبع من سر الظلال حيث يمكننا أن نرى خطوطا ً سوداء جميلة متقاطعة ضمن لقطة واسعة"، فمن أعلى البازيليكا وصولاً إلى الحواف المتعرجة للنوافذ الملساء، ترى بأن تلك الخطوط وكأنها تسقط كحبات المطر الغزير أو كاستعارة معاكسة لخطوط أشعة الشمس. وهنا، تشق هذه الصورة لنا مرة أخرى مسارا ً بين الجو المحيط بدار العبادة والرحلة الروحانية. إن صناعة الصور الفوتوغرافية باستخدام عدسة الكاميرا يمثل مواجهة فريدة مع العالم الأوسع حيث تكون العين الخيط الرابط ما بين العالم الخارجي والداخلي، والتي تترجم كذلك هذه الخطوة كما وصفها ميرلوبونتي في كتاب “ العين والعقل” بالقول: “ للعين دور رائع في انفتاح الروح على الأشياء – على عالم الأشياء المرحة وسيدها، الشمس. فمن خلال الرؤية يمكننا أن نستشعر ملمس الشمس والنجوم، بحيث نكون في كل مكان في اللحظة ذاتها، لدرجة أننا نستمد قوتنا على تخيل أنفسنا في أماكن أخرى من خلال ما تراه أعيننا”. وتمر الصورة عبر النفق المغلق للكاميرا ومن ثم تنعكس في مرآة العالم الداخلي، وهذا ما تترجمه الصور الفوتوغرافية التي تلتقطها عدسة ريم الفيصل والتي تعكس هذا البعد الخفي والخيال الخصب. أنظر كيف تلتقي الأضواء والظلال معا ً ، وكيف يتشكل هذا الفضاء الفوتوغرافي، والتي تمثل جميعها عناصر مميزة لأسلوبها البصري. ويشكل التصوير الفوتوغرافي بوابة للخيال الواسع، والذي يكون بقدر ما تشاركه الفنانة معنا كجزء من الواقع – أي واقعها، فهي تمنح الناظر الزمن للسفر من خلاله لكي يشكل صورته التي يفضلها. وبطريقة ما، يسعنا القول بأن التصوير الفوتوغرافي يمكن أن يكون مرآة لروحنا، فهو يتيح أمامنا الفرصة للتعرف عليها ولكي يروي حكايته عبر صورها، واستشهادا ً بالمقالة الرائعة لبول كلوديل، يمكننا القول بأن عدسة ريم الفيصل تنصت لنا. فتراها تلاحظ، وتلتقط، وتترجم لحظات سرية قيمة بكل تواضع ودون إخلال بتفاصيل اللحظة التي تلتقطها عبر عدستها. فها هي الصور الملتقطة للمصلين، سواء كانت في اسطنبول التركية، أو في إمارة الفجيرة والتي توقف الزمن بنا وتدفعنا نحو مرحلة اللا زمن، فترى الضوء الذي يخترق النوافذ الزجاجية الملساء في المسجد الأزرق ملتفا ً بالمصلين مما يدفعنا للتعمق بالتفكير والتأمل. إن هذا الأسلوب المتثمل في التناوب ما بين النور والظلام يعمل على خلق المشاعر التي تشير لأهمية وجود التناقضات / الأضداد، فضلاً عن عامل الكثافة والمناطق الواقعة تحت الظل مقابل المناطق الواقعة تحت الأنوار الواسعة. كما توفر البقع المظلمة راحة بصرية بينما يستحوذ الضوء على اهتمامنا. أما هذه الأوركسترا البصرية فتعمل على نمذجة الفضاء الروحي مما يخلق المشاعر المختلفة. فيما تبدو لنا الموسيقى الموصوفة هنا من قبل هنري إليكان وكأنها تتجسد في الصورة ذاتها، حيث يعمل الضوء كقناة للتواصل الصامت مع الرجال في انحنائهم للضوء الإلهي. أما الظل فيشكل هنا جدارا ً يقيهم مما هو ملموس بحيث يختزل في صميمه سر إيمان أولئك المصلين. وبالمثل، تبدو المرأة التي يحيط بها الضوء الخافت من النافذة وكأنها منغمسة في صلاتها الخاصة. وفي هذه الصورة، تمكنت ريم الفيصل من إبراز قوة التأمل الصامت.
إن الجمال الظاهر في جميع تلك الصور يعتمد على التناوب الدقيق ما بين النور والظل، وحينما يتداخلان، نجد بأن قوة تدفق الضوء وشفافية الظل يعملان معا ً على ترجمة قوة التأمل الصامت. ولا بد من القول بأن أماكن العبادة هذه تزخر بنوع من الروحانية الساحرة والأسود البعد الميتافيزيقي للفن، حيث يمكن للألوان الأخرى أن تشتت انتباه المرء بعيدا ً والفريدة. وخلال إحدى المقابلات، تقول الفنانة ريم الفيصل: “يعكس اللونان الأبيض عن الصورة ذاتها بينما يعمل هذين اللونين على توجيه جل تركيزه على الصورة”. كما يتجلى ذلك البعد الميتافيزيقي بفضل الطبيعة الباهتة للونين الأسود والأبيض، حيث يخلق غياب اللون المساحة المطلوبة للرائي، فيما يعب ّ ر عمق ذلك السواد عن الصدى الروحاني الفريد، والذي لا يمكن للألوان الأخرى تحقيقه. وفي الواقع، فإن صور شعائر الصلاة هذه تعبر عن مشاعر الفنانة ريم الفيصل: وذلك من خلال ذلك العمل العبقري المتمثل في الانفتاح الروحي والحياة التي تجسدها تلك الصور. ويمكننا أن نلاحظ هنا المشاعر المتجلية في الصور الفوتوغرافية كصورة ذلك الرجل التي تم التقاطها من الخلف، فنرى حركة جسده المتواضعة والمفعمة بالروحانية، فضلاً عن التفاصيل المتمثلة في طيات قميصه، والظلال ومنحنيات الزقاق حيث تمثل هذه العناصر مجتمعة العزلة التي يتلذذ ذلك الرجل بها بالإضافة لخشوعه. وعلى النقيض من
ذلك، تدهشنا الصور الملتقطة لمناسك الحج بوضوحها ونقاءها التام حيث يرتدي الجميع، رجالاً ونساء، اللون الأبيض والذي يعكس شعاع الإيمان، وتمثل الظلمة عامل التأمل بينما يمثل النور الرحلة إلى الأراضي المقدسة، إلا أن الجوهر الحقيقي للصور يكمن على الدوام بدرجة الاحترام والورع. ودائما ً ما تستمد الفنانة ريم الفيصل إلهامها من الطبيعة، ومما تخفيه الروح ما بين السموات والأرض، ومن ثم تعمل على تشكيل عالمها من خلال الصور وهو العالم الذي تشاركه معنا في كل مرة. كذلك، فإنها تعكس هذا البعد الانطباعي في صورها للمناظر الطبيعية، كتلك الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدستها في إمارة الفجيرة والتي تمثل الصورة العكسية للعالم الروحاني، ومن ثم يتكشف لنا المكان فبالرغم من بساطة تكوين بعض الصور إلا أنها دائما ً ما تعكس عنصر الصلابة والحزم. وبالرغم من انخفاض علوها، إلا أن تلك الأفق تذكرنا بالوجود الإلهي، ونرى في أحيان أخرى لمسة من الضوء، سواء كانت الشمس أو القمر، أو حتى سلك مصباح بسيط مثلما هو الحال في صور أماكن العبادة. وعادة ما يكون اللون الأسود أ كثر نعومة وخفة، فنرى صورة المسجد في منطقة رأس الخيمة مرتفعا ً في وسط الطبيعة كما لو كان جوهرة عالقة بين السماء والأرض. ولعل البساطة التي تنبع من هذه الصورة تستدعي أن نتذكر الصور الانطباعية للمناظر الطبيعية للفنان غوستاف لو جراي. يشير مفهوم المناظر الطبيعية إلى المفاهيم الفلسفية للإنسان في هذا العالم ولمفهوم الخيال مقابل مفهوم اللانهاية. إضافة لذلك، فإن امتداد الأراضي أمام أعيننا يساعدنا على إدراك وجودنا بشكل أفضل، فلدى التمعن في صور المناظر الطبيعية يتوقف الزمن ويطلق لنا العنان للتخيل فهذه المناظر موجودة في دواخلنا ولا تشكل مرآة لجمال الطبيعة فحسب، بل لجمال أرواحنا العائمة كذلك. “ الأحلام تسبق الأفكار، حيث تمثل جميع المناظر الطبيعية تجربة واحدة قبل أن تتحول لصورة معينة، كما أن المشاهد التي نراها في الأحلام هي وحدها التي يمكن أن نراها بشغف جمالي. وطبقا ً لغاستون باشيارد، فإن امتداد المناظر الطبيعية يعمل على تحريك الأحلام وتكوين الصورة في مخيلتنا”. ونرى التدرجات الرمادية في الصور الفوتوغرافية في إمارة الفجيرة وكأنها ترسم ملامح مشهد طبيعي حالم، حيث أن هذه الظلال التي لا تميل للسواد التام ولا للأبيض الناصع تضفي على المشهد لمحة تصويرية تكاد تكون أقرب لاعتبارها لوحة مرسومة بريشة فنان. كما نرى ذلك الحوار لدى التفكير في المشهد والذي يوقظ مشاعر وأحاسيس معقدة بما في ذلك مجموعة كاملة من الأفكار والتصورات التي لا نبوح بها فنتذكر بأننا لا نزال أحياء لدى النظر إلى تفاصيل الصورة بما في ذلك الهدوء المطبق لى المكان، وحد ّ ة الجبال وشموخها، وارتفاعات أشجار النخيل المتنوعة، فضلاً عن رائحة الرمل ونعومة الغيوم. لقد تميز الفن الضوئي منذ نشأته، حيث يشكل التصوير الفوتوغرافي عالما ً بصريا ً يعبر عن نفسه عبر نقيضين اثنين ألا وهما اللونين الأسود والأبيض.
وبالنسبة للفنانة ريم الفيصل، يعتبر اللونان الأسود والأبيض أعلى مستوى في فن التصوير الفوتوغرافي لما يعكسانه من عمق ورمزية لا يمكن أن تعكسهما الصور اللونية. إضافة للفلسفة الأعمق والتي تتمثل في تباين الدرجات الرمادية للحياة. وعادة ما تترجم الفنانة ريم الفيصل تلك الخصائص بصورها الفوتوغرافية باللونين الأسود والأبيض فضلاً عما تترجمه من علاقتنا بالعالم: ما بين الغسق والفجر، حيث تمنحنا عدسة المصورة الغذاء الروحي الذي نتعطش له.
*ترجمة أوريلي لاكوشي من الفرنسية
24 تشرين الثاني/نوفمبر 2020
مشاركة الخبر: عدسة ريم الفيصل تنصت لنا على وسائل التواصل من نيوز فور مي