محمد ملص في محنته الصحية... مجرّد لحظة ستعبر كالعادة
مطلع تسعينيات القرن العشرين، يتعرّض السينمائي السوري محمد ملص (1945) لحادث سير، يُقال حينها إنّه يكاد يودي بحياته. في طريقه إلى القنيطرة، لتصوير مشاهد من "الليل"، يقع الحادث، ويُنقل إلى المشفى، ويجهد فريق طبي في إنعاشه، تمهيداً لبلوغه لحظة الشفاء المطلوب. لكنّ شيئاً ما في ذات ملص، كما في روحه وعقله، يُقارع الخطر، فيخرج منه إلى بلاتوهات التصوير، لإنهاء فيلمٍ، ولتكملة حياةٍ.
قبل وقتٍ قليل، يُصاب ملص بعارضٍ صحي. التالي معروف: مشفى وعلاج وعملية، والشيء الذي فيه يواجه ويتحدّى. فهذا دأبه، وهذا نمط حياة يعيشها، وهذا تفكيرٌ في المقبل، وهذا استيعاب لحاصلٍ يأتي فجأة، أو على مهلٍ. تواجهه تحدّيات، في الحياة والإنتاج والبلد والعالم، فيُدرك أنّ الهدوء، وإنْ من دون سكينة كاملة، أداة مقارعة، لعلّها تُتيح له غلبة التحدّيات والمخاطر. أو ربما أسلوبٌ في احتواء قهرٍ وغضبٍ وألم، فلعلّ الهدوء فاعلٌ في خلاصٍ من كلّ قهرٍ وغضبٍ وألم، أو مجرّد انعكاسٍ مختلف لهذا كلّه.
لـ"الليل" نفسه، المُنجز عام 1992، فضل تحقيق أول لقاء لي معه. ففي يومٍ ما (لا أتذكّر تاريخه) أعرف أنّ الصديق محمد سويد مدعوٌّ إلى دمشق لحضور العرض الخاص بالروائي الثاني لملص، بعد "أحلام المدينة" (1984). ذاك زمنٌ لبناني مختلف، فالحرب الأهلية (1975 ـ 1990) مُنتهيةٌ، أو هكذا شُبِّه لنا، والعداء بين لبنانيين/لبنانيات و"سورية الأسد" عميقٌ، والخوف من "غولاغ" حافظ الأسد كبيرٌ. الزمن اللبناني نفسه مختلفٌ أيضاً، فالطرقات بين البيروتين مفتوحة، ولي في "السفير" (الصحيفة اليومية اللبنانية) أعوامٌ، وحادث السير لملص يُثير نوعاً من هلعٍ، أو قلق على الأقلّ، في القسم الثقافي. لذا، تلبية سويد الدعوة فرصةٌ أنتهزها، فيُوافق الصديق اللبناني، ويُرحِّب بها المخرج السوري الذي لن يكتفي بدعوةٍ لحضور فيلمٍ، بل سيفتح أبواب منزله لتمضية ليلةٍ فيه، بعضها مشغول بنقاشات، وبعضها الآخر، القليل، لحظة راحة.
عمرٌ يمضي بين 1992 و2024، يستحيل اختزاله ولو من أجل تحديد محطات أبرز فيه، أو أكثرها جمالاً واقتراباً. هذا لا يقول إنّ صداقةً، بمعناها الأصفى والأجمل، حاصلةٌ بيننا، فالوقت اللاحق طويلٌ، واللقاءات تتكاثر لكنْ بعد حين.
حادث سير سيليه أكثر من حادثٍ، وإنْ يكن بعض ذلك معنوياً، فالحصول على إنتاجٍ في سورية، أو في الامتداد العربي، أو في الغرب، دونه صعوبات، والرقابات كثيرة. رغم هذا كلّه، يُتقن محمد ملص التلاعب بالوقت ويحتال على الحواجز، وإنْ بصعوبة، وإنْ بقلق، فهذا الحال العربي سينمائيٌّ بامتياز.
لحظة أخرى: عشية بدء الحرب الأميركية على العراق (19 ـ 20 مارس/آذار 2003)، يدعوني ملص إلى حلب، لتمضية أيامٍ تُتيح لي متابعة تصويره فيلماً جديداً له، سيكون "باب المقام" (2005). الفرحة مزدوجة، فتلبية الدعوة ستحقّق أول زيارة لي إلى حلب (ستكون الأخيرة للأسف)، وستجعلني أعاين أسلوب ملص في التصوير، وعلاقاته بعاملين وعاملات معه في البلاتوه. تلبية الدعوة ستُتيح لي أيضاً فرصة كتابةٍ، تجمع هذا كلّه في نصٍّ له جانب شخصيّ، لكنّ المهنيّ طاغٍ. أصِلُ حلب. فجر يعقوب (كاتب ومترجم) أوّل المُستقبلين، بعد وقوفٍ لي وحيداً أمام "فندق البارون"، متأمّلاً فيه. ثم جولة قصيرة، فلقاء ملص الذي يُحضِّر مساحة صغيرة لتصوير مشهدٍ. تمرّ ليلةٌ، فيها كلامٌ ودردشات، وسببٌ شخصيّ يدفع إلى المغادرة، والعودة إلى بيروت.
الآن، يواجه محمد ملص تحدّياً جديداً، مع أن لا جديد في هذا، فسيرته تحدّيات، وهذا الجديد مجرّد لحظة ستعبر كالعادة، إذْ يصعب فصل التحدّي عنه. كأنّ التحدّي أسلوب عيشٍ، أو سلوكاً يجعل الحياة تنبض بحيويةٍ يُخبّئها في ما يُشبه سكينة ظاهرة، وبحماسة عملٍ تنكشف في حركة ونبرة هادئتين للغاية.
التحدّي الجديد لحظة ستنتهي، فملص مثابر على غلبة التحدّيات.
مشاركة الخبر: محمد ملص في محنته الصحية... مجرّد لحظة ستعبر كالعادة على وسائل التواصل من نيوز فور مي