روسيا تصعّد هجماتها في أوكرانيا... بلا حرب عالمية
دخل النزاع الروسي الأوكراني في الأيام الأخيرة مرحلة جديدة من التصعيد بعد إقدام موسكو، أول من أمس الخميس، على شن ضربة على البنية التحتية العسكرية في مدينة دنيبرو الأوكرانية بصاروخ أوريشنيك الباليستي الفرط صوتي العابر للقارات، في تصعيد هو الأكبر منذ بدء الحرب الروسية المفتوحة في أوكرانيا قبل قرابة ثلاثة أعوام. إلا أن هذا التصعيد، بحسب مراقبين، لن يصل إلى مرحلة نشوب حرب عالمية ثالثة. وجاء الهجوم الذي أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه في كلمة متلفزة مساء أول من أمس بعد سلسلة جديدة من حلقات التصعيد، بما فيها الضوء الأخضر الأميركي والبريطاني والفرنسي لكييف باستخدام الأسلحة بعيدة المدى لاستهداف العمق الروسي وتنفيذ أولى الهجمات بواسطتها على المقاطعات الحدودية الروسية (إطلاق صواريخ أتاكمس أميركية الصنع على منطقة بريانسك، الثلاثاء الماضي، بحسب وزارة الدفاع الروسية). وتزامن ذلك مع مصادقة بوتين، الثلاثاء الماضي، على العقيدة النووية المعدلة وتوسيع حالات استخدام السلاح النووي، وشن روسيا ضربة مكثفة على منشآت الطاقة الأوكرانية، وسط مخاوف من هجمات جديدة دفعت ببعض السفارات الغربية لدى أوكرانيا أول من أمس، إلى تعليق عملها بشكل مؤقت.
لكن على صعيد المواجهة الروسية الغربية، بدت موسكو أكثر انضباطاً مع تأكيد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، الثلاثاء الماضي، في سياق تعديل العقيدة النووية، أن "روسيا تتبنى موقفاً مسؤولاً من جهة بذل قصارى الجهود لمنع اندلاع مثل هذا النزاع"، أي النزاع النووي، داعياً الدول الأخرى إلى حذو حذوها والامتناع عن الاستفزازات. كذلك، شدّد بيسكوف في تصريحات أخرى، أول من أمس، على أن روسيا أبلغت الولايات المتحدة قبيل إطلاق "أوريشنيك" بنظام تلقائي عبر خط المركز الوطني الروسي لخفض الخطر النووي"قبل 30 دقيقة من عملية الإطلاق".
ويجمع محللون سياسيون وعسكريون في موسكو وكييف على أن الحلقات الراهنة من التصعيد، بما فيها استخدام الصاروخ الباليستي، لا ترقى إلى مستوى يهدد بنشوب حرب عالمية، بل تندرج ضمن سعي كل طرف لتحسين مواقعه "على الأرض" مع ترقب عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني المقبل، بغية التفاوض من موقع القوة.
كيريل كوكتيش: الدول الغربية لم تتجاوب مع تعديل العقيدة النووية الروسية
تفعيل العقيدة النووية المعدلة؟
اللافت أن الهجوم الروسي باستخدام صاروخ أوريشنيك وقع بعد أيام من نشر نص العقيدة النووية الروسية المعدلة، والتي نصت في بندها الـ11 على اعتبار "العدوان ضد روسيا الاتحادية و/أو حلفائها من قبل أي دولة غير نووية بمشاركة أو بدعم من دولة نووية ينظر إليه على أنه هجومهما المشترك". ويعتبر الأستاذ المساعد بقسم النظرية السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية كيريل كوكتيش أن تجاهل الغرب تعديل العقيدة النووية لم يترك لروسيا خياراً سوى الرد في أوكرانيا بحزم لترجمة التهديدات إلى أفعال على أرض الواقع. ويقول في حديث لـ"العربي الجديد" إنه "سبق لبوتين أن أكد صراحة أن استخدام الصواريخ الغربية بعيدة المدى لاستهداف العمق الروسي سيعني ضلوعاً غربياً مباشراً في النزاع"، لافتاً إلى أن "الدول الغربية لم تتجاوب مع تعديل العقيدة النووية الروسية، فلم يترك لموسكو خياراً سوى دعم تحذيرها بأعمال على الأرض".
ويجزم كوكتيش بأن استخدام "أوريشنيك" يشكل رسالة تحذيرية واضحة إلى الغرب، مضيفاً أن "مدى هذا الصاروخ يبلغ 5 آلاف كيلومتر، ما يعني أنه قادر على الوصول إلى أي هدف في أوروبا، بينما يحول تحليقه بسرعة تفوق سرعة الصوت دون اعتراضه بأي درع صاروخية". ويرى أنه "فعلياً، جرى إلغاء المبدأ السابق الذي كان يقتضي الرد على الدعم الغربي لكييف بضرب أهداف داخل أوكرانيا فقط"، وباعتقاده، فإن "ذلك سيبرد الرؤوس الساخنة للقادة الأوروبيين الشباب الذين يتسمون بانعدام المسؤولية والتطفل الاستراتيجي ويتعاملون مع الحروب وكأنها ألعاب كمبيوتر".
بدوره، يجزم الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين بأن الحلقات الأخيرة من التصعيد لن تفضي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة طالما أبدت روسيا حزماً في أعمالها. ويقول في حديث لـ"العربي الجديد" إن "تطورات الوضع تعتمد على رد الفعل الروسي، وطالما أبدت (موسكو) رداً حازماً، قد تتوقف الهجمات بالأسلحة بعيدة المدى فوراً، من دون أن يتطور الأمر إلى حرب عالمية ثالثة". ويخلص إلى أن "السياسات الغربية تعتمد على جس نبض روسيا، وانعدام رد فعل حازم منها كان سينظر إليه على أنه فرصة لمواصلة الضغوط على موسكو وإلحاق هزيمة بها".
أوكرانيا وتحسين المواقع الميدانية
يرجح المحلل بمركز الاتصال الاستراتيجي والأمن المعلوماتي في كييف مكسيم يالي ألا يؤدي السماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي بالصواريخ بعيدة المدى إلى تغيير مجرى النزاع، متوقعاً في الوقت نفسه استمرار الهجمات الروسية على منشآت الطاقة الأوكرانية طوال موسم الشتاء. ويقول يالي الذي يعمل أيضاً أستاذاً للعلاقات الدولية في معهد كييف للطيران، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الضوء الأخضر لاستخدام صواريخ أتاكمس لن يؤثر على الوضع الميداني في أوكرانيا تأثيراً كبيراً، لأن عددها غير كاف لقلبه بشكل جذري، وهو أمر يتطلب وابلاً منها لقصف مواقع عسكرية روسية بمئات الصواريخ، ما يعني أن الأسلحة المستخدمة بالفعل من الجانبين هي التي ستحدد مجرى النزاع".
وحول رؤيته لردود أفعال روسية جديدة على السماح باستخدام صواريخ أتاكمس الأميركية وستورم شادو البريطانية وسكالب الفرنسية، يرى أن "بوتين لن يقدم على استخدام السلاح النووي نظراً إلى ترقّبه تنصيب ترامب، مكتفياً بتوظيف العقيدة النووية المعدلة مجرد ورقة ترويع وضغط على الساسة الغربيين، بمن فيهم الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن، الذي بات يواجه انتقادات من أطراف داخلية وخارجية، بمن فيهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان". ويتوقع يالي أن "تبلغ كثافة الضربات الروسية على مواقع أوكرانية ذروتها في موسم الشتاء الذي ستزيد الظروف الجوية خلاله من صعوبة صيانتها وستفاقم النقص في الطاقة، بعد تلاشي الآمال في إمكانية توصّل موسكو وكييف إلى اتفاق على عدم استهداف منشآت الطاقة برعاية قطرية". وكانت صحيفة واشنطن بوست الأميركية قد ذكرت، في أغسطس/آب الماضي، أن أوكرانيا وروسيا اتفقتا على إيفاد وفدين لهما إلى الدوحة لعقد مفاوضات غير مباشرة للتوصل إلى اتفاق على وقف الضربات على مواقع البنية التحتية للطاقة والكهرباء. لكن الهجوم الأوكراني المباغت على مقاطعة كورسك الحدودية الروسية أفشل الخطة، وفق مصادر الصحيفة.
لا حرب عالمية ثالثة
في موسكو، يعتبر رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية أندريه كوشكين أن تعديل العقيدة النووية الروسية وتوسيع عدد حالات استخدام السلاح النووي وحتى الضربة بصاروخ أوريشنيك تأتي مواكبة للتوترات الجيوسياسية على الساحة العالمية، مذكراً بأن العمل على تحديث العقيدة النووية بدأ منذ سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل الضوء الأخضر الأميركي لاستخدام "أتاكمس" بشهرين. ويقول كوشكين الذي خدم ثلاثة عقود في الجيش السوفييتي ثم الروسي ويحمل رتبة عقيد احتياط، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "العقيدة النووية هي وثيقة أساسية لأي دولة عظمى، وجاء تعديلها مواكبة لزيادة حدة التوتر الجيوسياسي في العالم جراء الأعمال غير المسؤولة من قبل الغرب الجماعي، مشكلاً خطوة نحو التكافؤ العقائدي في الحالات المتاح فيها استخدام السلاح النووي مع الولايات المتحدة التي تحلل لنفسها شن ضربة نووية استباقية وتحرم ذلك على الآخرين".
ويقلل كوشكين من أهمية المزاعم بأن نشر العقيدة النووية المعدلة جاء رداً على الضوء الأخضر الأميركي لاستخدام "أتاكمس"، مضيفاً أن "العمل على تدقيق نص العقيدة النووية استغرق ما يقارب الشهرين، بينما جاء القرار الأميركي مفاجئاً، ما يعني أن تزامن التوقيت مجرد صدفة، لكنها صدفة منطقية في ظل إصرار واشنطن على الارتقاء بمستوى الدعم العسكري المقدم لكييف". ويتساءل: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ألن تزود الولايات المتحدة أوكرانيا بأسلحة نووية قريبا؟". ويعتبر أن بايدن يسعى لترك إرث ثقيل لترامب، قائلاً: "من الواضح أن إدارة بايدن تسعى لتثبيت الدعم لأوكرانيا حتى تصعّب على ترامب خفض مستواه (الدعم) حتى إن أراد، وليس هناك ما يضمن قدرتها على التغلب على الدولة العميقة الأميركية".
أندريه كوشكين: بايدن يسعى لترك إرث ثقيل لترامب
وكان المحلل السياسي الروسي المقرب من الكرملين ورئيس تحرير مجلة روسيا في السياسة العالمية فيودور لوكيانوف قد اعتبر، أخيراً، أن سباق واشنطن مع الزمن للسماح لكييف بقصف العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى بذريعة الاستعانة بالجنود الكوريين الشماليين يعود على أرض الواقع إلى سعي الإدارة الأميركية لتحسين أوضاع القوات الأوكرانية ميدانياً تمهيداً للمفاوضات. وفي مقال له بصحيفة روسيسكايا غازيتا الرسمية الروسية، عزا لوكيانوف الضجة حول السماح لكييف بضرب العمق الروسي بالأسلحة بعيدة المدى إلى مجموعة من العوامل، بما فيها التلميحات الروسية الصريحة إلى أنها ستعتبر ذلك تدخلاً مباشراً لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في النزاع، والتباينات حيال القضية الأوكرانية بين الحكام المغادرين والوافدين في الولايات المتحدة، والارتباك الأوروبي عشية التغيير المرتقب. وتوقع أن استخدام الأسلحة بعيدة المدى "سيصعّب أعمال روسيا من دون تغيير طابعها العام"، لافتاً إلى أن الإدارة الأميركية التي تدرك حتمية عقد مفاوضات بشأن إنهاء النزاع، تسعى- وفق منطقها - لتحسين مواقع كييف التفاوضية الضعيفة حالياً عبر دعمها في استمرار توغل القوات الأوكرانية في كورسك على سبيل (استخدامها) ورقة للمساومات.
وكانت إدارة بايدن قد أعطت، الأحد الماضي، الضوء الأخضر لكييف لاستخدام صواريخ أتاكمس بعيدة المدى لضرب العمق الروسي، بينما سارعت باريس ولندن إلى حذو حذوها، ما أثار استياء وزارة الخارجية الروسية التي اعتبرت أن ذلك "سيعني ضلوعاً مباشراً للولايات المتحدة وحلفائها في أعمال القتال ضد روسيا"، متوعدة بـ"رد مناسب وملموس". تلا ذلك توقيع بوتين، يوم الثلاثاء الماضي، على مرسوم المصادقة على العقيدة النووية الروسية المعدلة التي نصت على توسيع قائمة الأطراف المراد إجراء فعاليات الردع النووي بحقها، لتشمل "الدول بعينها والأحلاف العسكرية التي تعتبر روسيا الاتحادية "عدواً محتملاً" في حال كانت تمتلك أسلحة نووية أو "قدرات قتالية هامة". كما تشمل "دول توفر أراضي تحت سيطرتها ومجاليها الجوي و/أو البحري لشن عدوان على روسيا الاتحادية"، في تلميح صريح إلى الضربات الأوكرانية في العمق الروسي باستخدام الأسلحة الغربية. في موازاة ذلك، نشرت صحيفة ذا صن البريطانية، الثلاثاء الماضي، تقريراً تناولت فيه تلقي عسكريين أوكرانيين تدريباً في المملكة المتحدة تضمن في ختامه كلمة للسفير الأوكراني لدى بريطانيا، القائد العام السابق للقوات المسلحة الأوكراني فاليري زالوجني، الذي نصح المتدربين بـ"تعلم عدم الخوف من الموت"، وعون الزملاء في ساحة المعركة و"القتل من دون تردد" عند رؤية العدو، خاتماً كلمته بهتاف "المجد لأوكرانيا".
مشاركة الخبر: روسيا تصعّد هجماتها في أوكرانيا... بلا حرب عالمية على وسائل التواصل من نيوز فور مي