ما يجب مخاطبة ترامب به

يحتاج العالم العربي، وبالذات البلدان الفاعلة فيه، إلى إبداء قدر كبير من الدينامية ومن المبادرات النشطة في التعامل مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب وأركان إدارته بالنظر إلى التوجهات المتطرّفة لهؤلاء، وإلى نظرة الاستعلاء التي يبدونها حيال وزن العالم العربي، في مقابل إعجابهم بدولة الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها، واستعدادهم المسبق والسخيّ للاستجابة للمطالب غير المشروعة لتل أبيب، والتي من شأنها إدامة الصراع في المنطقة وتغذيته بعناصر توتير إضافية. وانطلاقاً من التزام ترامب المعلن بوقف الحرب في الشرق الأوسط (وأوكرانيا)، ومن غير أن يحدّد نقاط ارتكاز لتوجّهه السلمي هذا، فإن في وسع الدول العربية الفاعلة المبادرة إلى طرح استعدادها للعمل على وضع اتفاق سلام مع الإدارة الجديدة، ولا بأس أن يسمّيه ترامب "صفقة"، فالفيصل هو الفحوى والأهداف والالتزامات وآليات التنفيذ والجدول الزمني. وابتداءً، فإن "صفقة السلام والازدهار"، أو "صفقة القرن" حسب تسميتها الإعلامية في العام 2020، لم تنجح، لأنه لم تسبقها مشاورات واسعة مع الطرفين المعنيين، إذ اقتصرت المشاورات على الطرف الإسرائيلي دون الفلسطيني وأطراف عربية فاعلة، ولأن الصفقة تجاوزت قرارات الأمم المتحدة بصورة صارخة، بما يخص الاستيطان غير الشرعي للأراضي المحتلة، وتزامنت مع تسمية واشنطن للقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ولأن الصراع، في الأصل، سياسي مع عناصر أخرى أقل أهمية، فإن ما جرى تقديمه مزايا اقتصادية في الصفقة لم يكن له أي تأثير إيجابي، إذ تفيد خبرة هذا الصراع بأن الحلول السياسية وحدها تفتح الأبواب لسلام اقتصادي، وليس العكس.

وعليه، ومع تغير الظروف، وبخاصة ما نشهده من حربٍ لا حدّ لوحشيّتها، وتؤدي إلى فظائع يومية في غزّة ولبنان، فإن الحاجة ماسّة إلى وقف إطلاق نار تام على الجبهتين، وهو ما أخفقت فيه إدارة بايدن، من أجل التهيئة لعقد اتفاق جديد فلسطيني إسرائيلي برعاية عربية ودولية، ومن الولايات المتحدة على الخصوص، ومن أجل وقف ارتكاب مزيدٍ من المجازر التي تُدمي ضمير الإنسانية. وبوسع اتصالات عربية مع ترامب، ومع إدارة بايدن أن تضغط على هذه الأخيرة لكي توقف منح الضوء الأخضر لنتنياهو لمواصلة حربه وإلزامه بوقفها، وبعد أن بات العالم كله يعرف أن الإدارة الحالية شريكة في حرب الإبادة هذه، وهو ما يلطّخ سمعة الدولة العظمى في سائر أرجاء المعمورة.

وبالحديث عن الدينامية المُفتقدة والمطلوبة، فقد كان يؤمل مثلاً أن توجّه القمة العربية الإسلامية أخيراً في الرياض (11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، دعوة إلى الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات مع إسرائيل إلى تخفيض مستوى علاقاتها إلى الحد الأدنى، وتجميد سائر أشكال التعاون مع دولة الاحتلال، على أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها مع وقف الحرب على غزّة ولبنان، ومع انطلاق مسيرة سلمية شاملة، وهو ما يتفق مع ما ورد في البيان السياسي الختامي للقمة أن "لا سلام مع إسرائيل قبل انسحابها إلى حدود 1967". كان من شأن دعوة صادرة عن قمّة تمثل نحو ملياري مسلم وعربي أن تحرّك المياه الراكدة، وتكسر الجمود الخطير، وأن تخاطب الرئيس المنتخب ترامب وإدارة بايدن معاً، وأن تضع "المجتمع الدولي" أمام مسؤولياته لوقف الحرب، بعد أن تخطو الدول المعنية أولى الخطوات العملية للضغط على إسرائيل، إذ لا تستقيم دعوة "المجتمع الدولي" إلى ممارسة مسؤولياته، وفق ما تواظب القمم العربية عن حقّ على ترديده، فيما تمتنع دول الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، صاحبة هذه الدعوة، عن ممارسة مسؤولياتها هي بهذا الشأن، وتمتنع عن اتخاذ أي إجراءٍ ملموس للضغط على إسرائيل، يتخطى تقديم المساعدات إلى غزّة. وحتى هذه المساعدات، وعلى أهميتها الكبيرة، فإن وصولها إلى مستحقّيها المنكوبين، تصادفه صعوباتٌ جمّة وعراقيل متعمّدة من الاحتلال، ما يتطلب توجيه ضغوط لتحقيق هذه الغاية، ولإبعاد شبح المجاعة المخيّم.

من أبسط الواجبات العربية والإسلامية إبداء دينامية سياسية مضادّة، والتلويح بإجراءات حازمة ضد حكومة نتنياهو

ولأن القمة الطارئة لم تخرج بإجراء أو قرار عملي، فإنها لم تترك للأسف أثراً ولم تُثر رد فعل يذُكر، وهي نتيجة يأسى لها المرء وكلّ من يسوؤه أن لا تكون الكلمة العربية والإسلامية مسموعة في العالم، وبما يتناسب مع الوزن الاستراتيجي للعالم العربي والإسلامي، كتلة كبيرة ذات موارد هائلة في قلب قارتي آسيا وأفريقيا. ومع انعدام الأصداء على هذا الحدث، مضت الإدارة الموشكة على الانصراف في واشنطن في طريقها بممالأة تل أبيب في الحرب على لبنان، بعدما منحتها من قبل ضوءاً أخضر لشن الحرب، إذ تقرن وقف إطلاق النار على هذا البلد بمنح تل أبيب حرية استباحة الأجواء والمياه الإقليمية اللبنانية بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار، علماً أن جهد المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، ومن خلفه إدارته، يتركز على الفصل بين الحرب على كلّ من غزّة ولبنان، بحيث تتوقف الحرب على لبنان بجهد أميركي، فيما لا تنتهي الحرب على القطاع المنكوب إلا حين يقرّر ذلك بنيامين نتنياهو ووزراؤه الدمويون. وهكذا ما إن مضى أسبوع فقط على عقد القمّة الطارئة، حتى كانت واشنطن تُعرقل مجدّداً الإجماع الدولي في مجلس الأمن بالدعوة إلى وقف إطلاق النار على غزّة، حتى أن الموقف الأميركي أثار حفيظة بريطانيا التي صوتت بالموافقة على القرار إلى جانب بقية أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين. ذلك أن المسؤولين في واشنطن يتابعون الإجراءات السياسية، ولا يتوقّفون طويلاً أمام بيانات سياسية، كالبيان الصادر عن القمّة، وبينما فرضت واشنطن أخيراً مزيداً من العقوبات على حركة حماس، فإن هذه الإدارة ما زالت تدرس، منذ بداية العام الجاري، فرض عقوبات على الوزيرين الإسرائيليين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من دون أن تصل إلى قرار!

وأمام الزخم الملحوظ الذي يبديه نتنياهو في إدامة حرب الإبادة، فإن من أبسط الواجبات العربية والإسلامية إبداء دينامية سياسية مضادّة، والتلويح بإجراءات حازمة ضد حكومة نتنياهو، ومخاطبة ترامب وعواصم القرار الدولي بأن التوحش الإسرائيلي فاق كل الحدود، وآن له أن يتوقّف، وأن عشرات الدول العربية والإسلامية، إلى جانب أغلبية الدول، لن تقف بعد اليوم متفرّجة على هذا المسلسل الدموي.

مشاركة الخبر: ما يجب مخاطبة ترامب به على وسائل التواصل من نيوز فور مي