آمال المزوري... حكواتية مغربية تسافر على بساط الحكايات الشعبية
تقف الشابة آمال المزوري (25 عاماً) شامخة على خشبة المسرح بزيّها التقليدي المغربي وأسلوبها السلس المشوّق، وتنتقل بخفّة من مربع إلى آخر وهي تراقب حركات عيون وتقاسيم وجوه جمهورها المتعطّش إلى حكاية شعبية جديدة. من يتابعها يشعر أنها تروي قصتها بإبداع قوامه جوهر اللفظ ومعناه، متسلحة بالتشخيص والتصوير الرمزي، مازجة بمهارة بين عربية فصحى ولكنة شمالية محلية، وتعتمد على الأمثال الشعبية وفنون البلاغة والبيان والمحسنات البديعية من سجع وجناس وطباق لترسم لوحة فنية تحرك الوجدان والمشاعر.
تتذكر آمال بداية شغفها بهذا الفن، وتقول لـ "العربي الجديد": "وسطي العائلي جعلني أُفطم على الحكاية لأسير على دربها وأخوض غمار التحدي في عالم ارتبط بالرجل منذ الأزل، إذ عرف عن الحكواتي أنه يكون ذكراً يجتمع حوله الناس في الساحات والمقاهي والحدائق ليستمعوا إلى القصص التاريخية التي يرويها بلسان حالهم". تضيف: "لم يكن الطريق مفروشاً بالورود. قيل لي إن هذا الفن ليس له آفاق، ولا يصلح لي لأنني أنثى، غير أنني تمسكت بحلمي في أن أصبح حكواتية، ورغبتي في المساهمة بإحياء التراث الشعبي المغربي عربياً وعالمياً، بالإضافة إلى تعزيز قيم السلام والتعايش بين المجتمعات من خلال فن الحكاية".
أصل الحكاية امرأة
مبكراً، تعرفت آمال على النصوص الشعبية الحكائية وتشربت خصائصها وسماتها والتنوع اللامحدود في مصادر الحكاية التراثية، وجعلت منها منطلقاً للبحث والتنقيب من أجل ولادة جديدة لهذا الفن. تقول: "كنت ألحّ على والدتي لزيارة بيت الجدّة الواقع بزقاق قديم في مدينة طنجة مسقط رأسي، كنت أعشق تفاصيله وأثاثه وطرازه الموريسكي، وكان علي أن أنتظر المساء بفارغ الصبر لأنهل من معين امرأة استثنائية".
ليلاً، كانت تتحول جدّة آمال إلى "شهرزاد" ببراعة وصفها وسعة خيالها وصوتها الناعم الدافئ فتنتقل من القصور الشامخة إلى الجزر الساحرة وأخبار الجن والعفاريت والمغامرات الأسطورية، عبر حكايات على لسان أبطالها وشخوصها من حيوانات ونباتات ، ويكون الفجر فيها فاصلاً بين الحكاية وتتمتها.
تؤمن آمال أن "أصل الحكاية امرأة (شهرزاد) وهي البطلة الذكية التي استطاعت أن تهرب من مصيرها المحتوم بفنون القول". في المقابل، تعترف بفضل خالها في توجيه بوصلتها، فقد "أهداني مجموعة قصص وشجعني على قراءتها، وكنت أحكي القصة بطريقتي وكان يستمع إليّ باهتمام وينصحني ويرشدني، ثم ساعدني لاحقاً على صقل موهبتي".
صندوق العجب
تواصل الحكواتية مسيرتها من خلال الغوص أكثر في التراث الذي يخلد جزءاً من تاريخ ووجدان الإنسان، والنبش في الذاكرة الشعبية، وبالتالي المقارنة والتمحيص ودراسة العلاقة بين العناصر المتشابهة في سجل متنوع على مرّ الأجيال يمزج بين الواقع والخيال. وتوضح آمال التي تترأس جمعية "صندوق العجب" للحكايات الشعبية، وهي أيضاً عضو في المجلس الدولي للتراث بتركيا: "أعمل على النبش في القصص التراثية ومحاولة تدوينها أو إعادة نشرها في بعض المجلات حتى تبقى مرجعاً لكل من يرغب في الاستفادة من هذا الكنز الشعبي الروحي". تتابع: "حفظت الشعر والزجل والرباعيات والأمثال الشعبية، وقدّمت الحكايات وعمري لم يتجاوز 18 عاماً بهدف المتعة والإفادة، أمام طيف واسع من المتلقين، بالإضافة إلى عملي على توظيف الحكاية الشعبية والموسيقى التراثية والاستفادة من خبرات الحكواتيين المحترفين في العديد من دول العالم".
ربط الأطفال بعوالم الحكاية
راهنت آمال التي لا تزال تتابع دراستها الجامعية على ربط الأطفال بعوالم الحكاية التراثية والقصة الخيالية خصوصاً في خضم تحديات الرقمنة وهيمنة ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، في سعي إلى تنمية ملكاتهم وشحذ مهاراتهم وتحفيزهم على الإبداع والابتكار. وتعتبر الحكاية مهمة للأطفال، لما لها من فضائل، "فهي تدفعهم إلى المتعة والاستفادة، كما تسهم في تنمية خيالهم وتعلمهم فن الإنصات وحسن الفهم، كما تبعث فيهم الرغبة في البحث والتنقيب وهكذا تتحول إلى نقطة انطلاق لأنشطة إبداعية كثيرة".
وتختلف وسائل تقديم الحكايات باختلاف أنواعها وموضوعاتها، فهناك الحكاية الدينية والتاريخية وأخرى للفطنة والاعتبار وثالثة للفكاهة والتندّر، ويبقى لكل مقام مقال. ويُمثّل رمضان شهراً مميزاً عن غيره من الشهور. فإلى جانب اقترانه بالعبادات والطاعات، فهناك سمر حكائي يضيء لياليه سواء داخل البيوت أو في المقاهي الشعبية والثقافية والمسارح وغيرها، كما تقول.
وتحكي آمال في رمضان لجمهورها حكايات دينية وبطولية وتاريخية وأسطورية. وتبدو ابنة طنجة مفتونة بفضاءات المدينة التي تحضر في قصصها من خلال أزقتها وحواريها وجدرانها، حماماتها، أناسها الطيبين، مجانينها، أوليائها ومقاهيها وكأنها سلسلة مترابطة يشد بعضها بعضاً.
وتستذكر أبرز الطرائف في أحد المقاهي الثقافية بمدينة طنجة، وتقول: "كانت أول تجربة لي برفقة جوق موسيقي تراثي (الطقطوقة الجبلية)، واستمر الكلام لساعات من دون ملل، وخصوصاً أن أحداث الحكاية كانت تدور في أحد الحمامات العتيقة (حمام فرانكو). وفي غمرة الحديث انتبهت إلى أحد أعضاء الفرقة ينظر إلى السقف عندما كنت أنادي على جني وكأنه فعلاً قادم إليهم، وهذا يدل على الانسجام والتفاعل التام مع الحكاية".
برؤية مغايرة مدفوعة برغبة في إبراز دور المرأة وقيمتها، خاضت آمال معركتها في سبيل منح الحكاية منظوراً متجدداً من خلال رؤى خلاقة وأفكار إبداعية أهّلتها لأن تكون أول حكواتية شابة في المغرب، كما أطّرت دورات في مجال الحكي، وشاركت في مهرجانات وملتقيات دولية ووطنية، وأحرزت عدة جوائز وتكريمات في بلدان عدة سفيرةً للحكاية الشعبية المغربية.
تتطلّع الحكواتية آمال إلى جعل التراث الشفهي مادة أساسية ضمن المقررات المدرسية والجامعية، وبذل المزيد من الجهود في سبيل الاهتمام بفن الحكاية، فضلاً عن إعادة الحياة للساحات العمومية وجعل الحكواتيين يضيئون نبراسها بملح حكايات إنسانية متأصلة ضاربة في جذور التاريخ ومكون من مكونات الهوية والذات.
مشاركة الخبر: آمال المزوري... حكواتية مغربية تسافر على بساط الحكايات الشعبية على وسائل التواصل من نيوز فور مي