هل تتمكن أوروبا من توحيد أسواق المال أمام التحديات الخارجية؟
حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد من أنّ أوروبا في حاجة ماسة إلى إحراز تقدم في توحيد أسواق رأس المال عبر التكتل في مواجهة الصراعات التجارية الوشيكة، مشيرة إلى الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة. وحجم السوق الأوروبي صغير مقارنة بحج اقتصاد الكتلة الأوروبية ويقدر بنحو 4.36 ترليونات دولار، مقارنة بحجم سوق وول ستريت البالغ 55.2 تريليون دولار، في يوليو/ تموز الماضي، ويساوي قرابة ضعف الاقتصاد الأميركي البالغ نحو 28 تريليون دولار.
وقالت لاغارد، خلال مؤتمر البنوك الأوروبية في فرانكفورت، الجمعة: "أسواق رأس المال هي الحلقة المفقودة للأوروبيين لتحويل مدخراتهم المرتفعة إلى ثروة أكبر، وهو ما سيمكنهم في نهاية المطاف من إنفاق المزيد وتعزيز الطلب الداخلي". وأضافت: "أصبحت البيئة الجيوسياسية أقل ملاءمة، مع التهديدات المتزايدة للتجارة الحرة من جميع أنحاء العالم، وباعتباره الأكثر انفتاحاً بين الاقتصادات الكبرى، فإن الاتحاد الأوروبي أكثر عرضة لهذه المخاطر من غيره".
ويساهم عدم وجود سوق موحد في حرمان العملة الأوروبية الواحدة "اليورو" من حيازة حصة أكبر في الاحتياطات البنكية العالمية. وفي حين تتخلف أوروبا عن الولايات المتحدة في نمو الإنتاجية والتقدم التكنولوجي، إلا أنّ الأسر الأوروبية تدخر حصة أكبر من دخلها، كما تستثمر بحذر أكبر، حيث تحتفظ بثلث أصولها في هيئة نقد وودائع، مقارنة بنحو 10% في أميركا.
5 عوامل تعترض توحيد الأسواق في أوروبا
يقول مصرفيون إنّ مسألة ما إذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على توحيد أسواقه المالية بنجاح هي مسألة معقدة، وتشتمل على أبعاد اقتصادية وسياسية وتنظيمية. وهنالك 5 عوامل رئيسية تؤثر على توحيد أسواق المال في دول الاتحاد الأوروبي، وهذه العوامل هي:
أولاً، الوضع الحالي للأسواق المالية في الاتحاد الأوروبي، إذ إنها مجزأة، مع وجود اختلافات كبيرة في القواعد التنظيمية، وممارسات السوق، وكذلك في البنية التحتية المالية بين الدول الأعضاء. ويمكن أن يؤدي هذا إلى عدم الكفاءة، وزيادة التكاليف على الشركات والمستهلكين، وتحديات في الاستثمار عبر الحدود.
وثانياً، تواجه خطوة توحيد الأسواق عقبة الإطار التنظيمي. وتتطلب السوق المالية الموحدة إطاراً تنظيمياً متماسكاً يعمل على تنسيق القواعد بين الدول الأعضاء. وقد خطا الاتحاد الأوروبي خطوات كبيرة في هذا المجال من خلال توجيهات وأنظمة مختلفة تهدف إلى توحيد الخدمات المالية. على سبيل المثال: توجيه الأسواق في الأدوات المالية الذي يعزز الشفافية وحماية المستثمرين. ووجود الاتحاد المصرفي الذي يضمن رقابة أقوى على البنوك داخل منطقة اليورو.
وثالثاً، وجود الإرادة السياسية والتعاون، إذ إن نجاح توحيد الأسواق المالية يتوقف على الإرادة السياسية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للتعاون بشكل وثيق. ورغم وجود دعم واسع النطاق لتعميق التكامل بين بعض البلدان، تظل بلدان أخرى حذرة بسبب المخاوف بشأن السيادة الوطنية على التنظيم المالي والمخاطر المحتملة المرتبطة بالالتزامات المشتركة. كما أثرت الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، مثل جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا، على الديناميكيات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي. وقد أثارت هذه الأحداث مناقشات حول مرونة الأنظمة المالية، وسلطت الضوء على الانقسامات بين الدول الأعضاء في ما يتعلق بالسياسات المالية.
رابعاً، الاعتبارات الاقتصادية، تشكل الفوارق الاقتصادية بين الدول الأعضاء في الاتحاد عقبة أخرى أمام توحيد الأسواق المالية. وقد تكون البلدان ذات الاقتصادات القوية مترددة في تقاسم المخاطر مع البلدان التي تواجه صعوبات اقتصادية. ومن الممكن أن يؤدي هذا التفاوت إلى توترات بشأن التحويلات المالية أو الضمانات المتبادلة التي قد تكون ضرورية لسوق متكاملة تماماً.
وخامساً، التقدم التكنولوجي، من الممكن أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى تسهيل المزيد من التكامل بين الأسواق المالية من خلال ابتكارات مثل سلسلة الكتل والعملات الرقمية. ويستكشف البنك المركزي الأوروبي (ECB) اليورو الرقمي الذي يمكنه تبسيط المعاملات عبر الحدود داخل منطقة اليورو. ومع ذلك، يجب أن تكون الحلول التكنولوجية مصحوبة بأطر تنظيمية مناسبة لضمان الأمن وحماية المستهلك.
ضرورة التكامل
ترى البنوك الكبرى في دول الكتلة أهمية توحيد أسواق المال. وفي يونيو/حزيران 2023، أكد ديفيد فولكيرتس لانداو، كبير الاقتصاديين في دويتشه بنك، في دراسة أهميةَ التكامل المالي الأعمق داخل الاتحاد الأوروبي لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات الخارجية. وأشار إلى أن "السوق المالية الموحدة لن تسهل تدفقات رأس المال بشكل أكثر سلاسة فحسب، بل ستعزز أيضاً مكانة الاتحاد الأوروبي في التمويل العالمي". وأشار لانداو إلى أنه على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه من خلال مبادرات مثل اتحاد أسواق رأس المال (CMU)، من الضروري اتخاذ المزيد من الخطوات لتنسيق اللوائح بين الدول الأعضاء وتحسين الاستثمار عبر الحدود.
من جانبه شدد بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي في دراسة حول التحديات التنظيمية صدرت في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، على أن "الأطر التنظيمية المتنوعة بين الدول الأعضاء تخلق حواجز أمام دخول المؤسسات المالية وتعيق المنافسة". ويرى محللو البنك أن تحقيق سوق موحدة حقاً لا يتطلب التوافق التنظيمي فحسب، بل يتطلب أيضاً التزام كل الدول الأعضاء بتبني معايير مشتركة. وأشاروا إلى أنه بدون هذا الالتزام، قد تتوقف الجهود الرامية إلى التكامل.
وفي الصدد ذاته، علق هينك بوتس، رئيس الأبحاث العالمي في بنك باركليز، على الفوائد المحتملة لسوق مالية موحدة للاتحاد الأوروبي في ضوء الشكوك الاقتصادية الأخيرة. وذكر بوتس أنّ "وجود نظام مالي أكثر تكاملاً من شأنه أن يعزز المرونة الاقتصادية من خلال تنويع مصادر التمويل وتقليل الاعتماد على الأسواق الوطنية الفردية". وأشار إلى أنه على الرغم من أن الإرادة السياسية ضرورية لتعزيز جهود التكامل، تؤكد التوترات الجيوسياسية المستمرة الحاجة إلى تعاون أقوى بين دول الاتحاد الأوروبي لحماية الاستقرار الاقتصادي.
مشاركة الخبر: هل تتمكن أوروبا من توحيد أسواق المال أمام التحديات الخارجية؟ على وسائل التواصل من نيوز فور مي