ما جرى لابن خلدون في تونس

ما جرى لابن خلدون في تونس

تم نشره منذُ 3 سنة،بتاريخ: 14-01-2021 م الساعة 03:22:18 الرابط الدائم: https://newsformy.com/news-445476.html في : فن وثقافة    بواسطة المصدر : الموقع بوست ثقافة

ما جرى لابن خلدون في تونس

الموقع بوست - العربي الجديد الخميس, 14 يناير, 2021 - 03:22 صباحاً

في ظاهره، ليس الأمر أكثر من خطأ إملائي. لكن جناية بلدية تونس العاصمة (وتونس عموماً) أكبر وأفدح على عبد الرحمن بن خلدون. لقد كان تمثاله آمناً يمر به الناس يومياً، لعلّهم لا ينتبهون إليه، فإذا به قد تحوّل إلى بؤرة استهزاء يتداول الناس صوره في وسائل التواصل، يتندّرون بما كُتب على القاعدة الرخامية للتمثال، نقرأ ولا نكاد نصدّق: "إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولاكن (نعم بهذا الرسم!) في باطنه نظر وتحقيق". هكذا مكتوبة أسود على أبيض في الحجارة، وبخط بائس، بارد، باهت...

ومن تحت العبارة الخلدونية المشوّهة، نقرأ أيضاً عبارات ملقاة بشكل عشوائي على الرخام، وكأن من اختار تلك المقولات تلميذ طُلب منه أن يأتي بشيء عن ابن خلدون فالتقط ما صادفه من الإنترنت ووضعه على الحجارة... دون حساب لمقام "العلّامة"، ودون تجشّم عناء المراجعة، ودون اجتهاد في جمالية الخط، أو دون رهبة من الكتابة على الرخام. فكثيراً ما نسمع عن رهبة الكتابة على الورق. فما بالنا بالكتابة في الحجارة..

وقبل كل شيء حدث ذلك دون اعتبار لحق العربية علينا، والمفارقة أن العبارة الثانية المقذوفة في الحجر، تقول: "إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم".

■  ■  ■

ليس هذا أوّل حظ عاثر لابن خلدون في تونس، وهو من مواليدها عام 1332 م، فقد تيتّم فيها صغيراً حين ذهب الطاعون بأبيه وأمّه. فتغرّب الفتى في مسقط رأسه، ولعله وجد في المعرفة بعض عزاء، إلى أن اشتدّ عوده فغادر تونس في العشرين من عمره، ولا شيء ينبأ بأنه كان عَلماً في بلاده الأولى، حتى بعد أن نال مكانته العلمية في فاس وغرناطة، فحين عاد تعرّض للتهميش حتى أنه يَذكر اعتزاله الناس وقضاء وقته في بيته قارئاً أو كاتباً، وحين غادر تونس مجدّداً كان كمن يطلب الرحيل عنها إلى الأبد، فقد اختنق من أجواء الدسائس التي تزكم الأنوف أكثر من رائحة الجثث زمن الطاعون.


ها نحن اليوم نتذكّر ابن خلدون بسبب خطأ إملائي. هذا حال العلّامة مع تونس بين زمنين وبين وباءين.

■  ■  ■

لو عدنا إلى تمثال ابن خلدون في وسط العاصمة. هل كان هذا النصب احتفاء يليق به؟ يعتقد الرسميّون ذلك، لقد جسّدوا أحد رموز "الهوية التونسية" في كتلة من البرونز. لكن لو تمعّنا في التمثال لوجدناه كئيباً غريباً، وها هو يتوسّط "مقر المقيم العام" (السفارة الفرنسية اليوم) و"كاتدرائية لويس التاسع"، وهذا الأخير قضى على سواحل تونس حين أتاها غازياً قبل ميلاد ابن خلدون بعقود قليلة.

تمثال صاحب "المقدّمة" قليل الحظ من الروح، لم تصل إليه حرارة الحياة التي يبثّها الفنانون في الحجر. لم يكن سوى عمل تحت طلب، تحت طلب الدولة تحديداً، نهاية السبعينيات، لأمر في نفسها. يقال أن الفنان زبير التركي قد نحت على صورته وجه ابن خلدون. لعلّ ذلك أطرف ما في أمر التمثال، أما البقية فوجوم وعبوس يشير إلى زائر تونس بأفظع ما في البلاد. فكأن هذا التمثال يفسّر سراً من أسرار الشهادة التاريخية القاسية التي قالها ابن خلدون عن بلده: "إذا دخلت أفريقية فوافق أو نافق أو غادر البلاد". كان يقول ذلك وفي ذهنه أناس من قبيل الرسميين الذين نصبوا تمثاله أو من يسهرون اليوم على إعادة تهيأته.

■  ■  ■

لكن ما سر هذه العناية بابن خلدون؟ فوضع تمثال هو تكريم في حدّ ذاته، تكريم لم يحظ به كثيرون غيره في تاريخ البلاد بجهدهم الفكري. وإلى جانب التمثال كثيراً ما نسمع عن مشروع تحويل بيته في المدينة العتيقة إلى متحف، ليكون مزاراً يأتيه السياح من العالم كي يروا المكان الذي ولد فيه "أب علم الاجتماع". لكن البيت اليوم مجرّد مقر لمصلحة إدارية تخزّن فيه أرشيفها، فيما تبقى الوعود بالعناية بالبيت وتثمينه بضاعة موسمية رائجة. للإشارة، عَرف قبر ابن خلدون في القاهرة ما هو أنكى، حيث جرى التفطّن منذ قرابة عشرين عاماً إلى أن ضريحه قد ضاع بسبب أشغال توسعة الطريق أمام "باب النصر".

هل يختلف من يجعل بيت ابن خلدون مخزناً للأوراق عمّن يشوّه تمثاله. ها إن صاحب "المقدّمة" يعرّي لنا من وراء القرون حقيقة العقول الصغيرة التي تدير الرأسمال الرمزي للمدينة. هؤلاء لا يهمّهم من شأن العلّامة إلا أن يعلّقوه وساماً.  باختصار، ابن خلدون حمار قصير يمتطيه مسؤولون صغار.


مشاركة الخبر: ما جرى لابن خلدون في تونس على وسائل التواصل من نيوز فور مي

local_library إقرأ أيضاً في آخر الأخبار

البيت الأبيض يطلب من الصين بيع تطبيق تيك توك للمقاطع المصورة

البيت الأبيض يطلب من الصين بيع تطبيق تيك توك للمقاطع المصورة

منذُ 4 دقائق

قالت كارين جان بيير المتحدثة باسم البيت الأبيض اليوم الأربعاء إنه يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك للمقاطع...

أتلانتا يتأهل إلى نهائي كأس إيطاليا يصطدم بيوفنتوس شاهد

أتلانتا يتأهل إلى نهائي كأس إيطاليا يصطدم بيوفنتوس شاهد

منذُ 4 دقائق

عوض أصحاب الأرض خسارتهم في مباراة الذهاب بهدف دون رد بملعب أرتيمو فرانكي معقل الفيولا ليتأهل بمجموع المباراتين بنتيجة...

مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث بنود مقترح جديد لصفقة تبادل أسرى مع المقاومة

مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث بنود مقترح جديد لصفقة تبادل أسرى مع المقاوم...

منذُ 4 دقائق

قالت قناة كان العبرية مساء الأربعاء إن مجلس الحرب الإسرائيلي والمجلس الوزاري السياسي الأمني الموسع الكابينتسيبحثان...

معادلة جديدة خسائر الاقتصاد البريطاني تتواصل جراء العمليات اليمنية في البحر الأحمر هبوط المبيعات لشركات في لندن

معادلة جديدة خسائر الاقتصاد البريطاني تتواصل جراء العمليات اليمنية في ...

منذُ 10 دقائق

تواصلت خسائر الاقتصاد البريطاني جراء العمليات البحرية اليمنية التي تستهدف السفن البريطانية في البحر الأحمر والبحر...

The Zionist commits six massacres in Gaza
The Zionist commits six massacres in Gaza
منذُ 11 دقائق

The Palestinian Ministry of Health in Gaza announced in its daily report on Wednesday that the number of Palestinians killed in the ongoing Israeli genocide in the Strip since October 7 has now reached 34262 with 77229...

عاجل| القيادة المركزية الأمريكية تقول أن السفينة يوركتاون التي استهدفتها القوات المسلحة اليمنية تملكها وتديرها شركة أمريكية وتضم طاقما من 18 أمريكيا و4 يونانيين
عاجل| القيادة المركزية الأمريكية تقول أن السفينة يوركتاون التي استهدفت...
منذُ 12 دقائق

عاجل القيادة المركزية الأمريكية تقول أن السفينة يوركتاون التي استهدفتها القوات المسلحة اليمنية تملكها وتديرها شركة...

widgets إقراء أيضاً من الموقع بوست ثقافة

جوامع صدام حسين في العراق تحف معمارية تخفي أسرار الصراع
رحيل وطفاء حمادي النقد النسوي على الخشبة
الحاجة الحمداوية أيقونة العيطة المغربية قادتها أغانيها للسجون وغنت أمام 3 ملوك
مورغان فريمان نجم لا يأفل سئم دور الرجل اللطيف