سؤال اتحاد الأدباء والكتاب بعد نصف قرن ما الذي تبقى من مشروع الطليعة الواعية؟ بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني
بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني
(1)
ابتداءً من مايو 1970، تداعى العشرات من المثقفين اليمنيين لتأسيس كيان نقابي عابر للدولة الشطرية في شمال اليمن وجنوبها، بعد أشهر قليلة من المصالحة الجمهورية والملكية برعاية سعودية، التي رأى فيها المثقفون انقلاباً مكتمل الأركان على النظام الجمهوري. وكان تأسيس الكيان أيضاً رسالة منهم للتعبير عن رفضهم لوجود سلطتين متباينتين على جغرافية واحدة اسمها اليمن الكبير، وليس الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في الجنوب. منذ البداية رفعوا شعاراً مركزياً بقوا يعملون تحته لعشرين عاماً كاملة، وهو “تحقيق الوحدة في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة”، وكان هذا الكيان، الذي أُسمي منذ المؤتمر التأسيسي الذي انعقد بين 26-29 أكتوبر/ تشرين الأول 1970، في عدن بـ”اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين”، أول مؤسسة وحدوية في البلد الواحد المشطور، يعمل جهاراً لتحقيق هذا الهدف، بقيادة ثلة من المثقفين الكبار (شعراء وقصّاصون ونُقاد وباحثون ومؤرخون)، والذين تركز اهتمامهم حسب بيان التأسيس “في إقامة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ليكون طليعة لوحدة المؤسسات الثقافية والاجتماعية، بعد إدراكهم أن المنظمات الشعبية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية تلعب دوراً حاسماً في إسقاط أو تحييد التجزئة والانعزال، وأن فهم هذه الأمور يقود بالنتيجة إلى موقف ينحاز إلى أي من الاختيارين، ولأن الأدباء والكتاب اليمنيين طليعة شعبية تسامت موضوعياً فوق مجموع الترسبات القبلية والمذهبية والسلالية والإقليمية، وغادرت نهائياً مواقع الأمراض الاجتماعية وتحررت من مؤثراتها، فإنها قد اختارت طريقاً شعبياً يقود إلى الوحدة ويجانب طرق الانقسام والانعزال”.
تشكلت هيئته التأسيسية الباكرة من كلٍ من: (الأستاذ عبدالله البردوني، أحمد قاسم دماج، محمد أحمد عبدالولي، علي بن علي صبرة، سالم زين محمد، عبدالله عبدالكريم الملاحي، عمر الجاوي، محمد عبدالقادر بامطرف، القاضي محمد علي الأكوع، الدكتور محمد عبده غانم، أحمد سعيد باخبيرة، محمد سعيد جرادة، يوسف الشحاري، الدكتور عبدالرحمن عبدالله، عبدالله الصيقل، محمد ناصر محمد، ومحمد عبدالواسع حميد الأصبحي). كان عمر الجاوي رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون في عدن حينها، هو الفاعل المستتر في التواصل، وقد أُسندت إليه دائرة النشر والإعلام، فاقترح إصدار مطبوع يعبِّر عن هذا المشروع الرائد وأهدافه، وعمل أيضاً وبجهود ذاتية على إصدار أول أعداد (الحكمة) عن طريق مؤسسة 14 أكتوبر، التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الأستاذ سالم زين محمد، عضو الهيئة التأسيسية للاتحاد. هذه الهيئة صارت مع 12 اسماً مضافاً إليها، قواماً للمؤتمر التمهيدي الذي تألف من 28 عضواً، بعد تعذر حضور عضو هيئة التأسيس محمد عبدالواسع حميد. أما الأسماء المضافة هي: (عبدالله عبدالوهاب القدسي، علي باذيب، أحمد محفوظ عمر، صالح الدحان، سعيد الجناحي، جعفر حمزة، عبدالله شرف، عبدالله الوصابي، محمد الذهباني، فريد بركات، محمد العديني وصالح سحلول).
(2)
صادف منتصف أبريل/ نيسان 2021، مرور خمسين عاماً على صدور العدد الأول من مجلة “الحكمة الجديدة” التي أعاد الأستاذ عمر الجاوي إصدارها باسم الاتحاد، كامتداد لمجلة “الحكمة اليمانية” التي صدرت بصنعاء في العام 1939، عن طريق وزارة المعارف، وصارت صوتاً للإصلاحيين التنويرين في شمال اليمن، قبل أن تغلق في الثلث الأول من الأربعينات، بعد أن رأى فيها الإمام يحيى أنها تقوي معارضيه، وتم هذا الإغلاق بعد موت رئيس تحريرها أحمد عبدالوهاب الوريث، مسموماً، بأشهر قليلة. وقد لعبت حكمة الجاوي الجديدة في عشرين عاماً دوراً مهماً في الحياة الثقافية الجديدة في البلد الخارج من عزلته الطويلة. افتتاحية العدد الأول سطرها رئيس التحرير عمر الجاوي تحت عنوان “ثقافة 26 سبتمبر”، التي تراكمت– أي ثقافة 26- بفعل تضحيات كتَّاب حكمة الوريث ورفاقه الذين كانوا من أبرز قادة الثقافة في اليمن في عصرهم.
في افتتاحية العدد الثاني من “الحكمة”، أشار الجاوي إلى تساؤل القراء عن نوعية وطعم ورائحة هذا المولود، وأجاب في ذات السياق بقوله:
” لسنا بصدد مشكلة عويصة لا تقبل الحل ولا نجد لها العلاج الناجع، وإنما كانت محاولة متواضعة في الحكمة للخروج عن التقليد المتبع في المجلات الجديدة. هذا التقليد الذي يبدأ بافتتاحية توضح خط المجلة ومنهجها ونوعية حتى محرريها… وحكمة اليوم ستغطي النقص في مجال الأدب والفنون والتاريخ، فللمقال السياسي اليومي مجال في الصحف اليومية والأسبوعية وللقضايا ذات الطابع الأيديولوجي والاجتماعي مجلات أيضاً”.
(3)
لم يزل اتحاد الأدباء بإرثه التاريخي القريب، يمثل الصورة الأنقى لنضالات المثقفين اليمنيين (من أدباء وكتاب وباحثين) في رحلة كفاحهم ضد الاستبداد السياسي لنظامي الشمال والجنوب، وأنه كرّس كل طاقات الأعضاء لبلوغ الهدف الأسمى وهو تحقيق الوحدة اليمنية، فتبدى الوجه السياسي لنشاط الاتحاد يسبق حضوره الثقافي، وأن الكثير من منتسبيه كانوا سياسيين، ووجدوا في الاتحاد مظلة جامعة يحتمون بها من قمع الأجهزة الأمنية في الشطرين، فكانت بطاقة عضوية الاتحاد أشبه بجواز مرور، وحصانة قوية للكثير من الأسماء المعروفة.
في محطات عديدة برزت أصوات قوية تطالب بتنقية كشوف العضوية في الاتحاد، من الأسماء غير الأدبية، فقد أثبتت المراجعات أن 25% من الأسماء الموجودة في القوائم هي لسياسيين وناشطين وواجهات اجتماعية، قادتهم الظروف إلى الاحتماء بالاتحاد كواجهة وطنية من ملاحقات أجهزة الأمن في الشطرين، وأن هذه الأسماء وجدت بعد الوحدة ملاذات جديدة وآمنة في الأحزاب والتكوينات السياسية والقروية. وفي كل مرة كانت تثار فيها قوائم العضوية، ابتداء من المؤتمر السادس في العام 1993، كان يظهر صوت قوي يقول بأن الاتحاد سيتعرى من قوته الرمزية إن أسقط عشرات الأسماء من السياسيين الوازنين من قوائمه، وعلى الرغم من أنها أسماء ذات حضور قوي في الحياة العامة، إلاَّ أنها لم تنشغل بموضوع الكتابة الأدبية على الإطلاق، ولم تخدم الاتحاد من مواقعها الجديدة بعد الوحدة.
(4)
في المؤتمر الخامس للاتحاد الذي انعقد في عدن في خريف 1990، (بعد أشهر قليلة من دولة الوحدة)، كان لزاماً على أعضاء الاتحاد استبدال شعارهم التاريخي “تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة”، بشعار جديد يستوعب عمل الاتحاد في المرحلة الجديدة. أما الشعار الذي تم التوافق عليه، فكان “حرية الإبداع تأصيل للديمقراطية والتحديث”، وبقي الاتحاد يعمل تحته لعقدين جديدين (1990-2010). المرحلة الجديدة فرضت أيضاً استبدال القيادات التاريخية بأخرى محسوبة أيضاً على اليسار، لكنها لم تستطع إدارة الاتحاد في المرحلة الجديدة، فبدأت صورة الاتحاد تبهت، وحضوره في الحياة العامة يضعف، ليبدأ التنظير وقتها لتعظيم النقابي في عمله لحماية الأعضاء والمنتسبين.
كتبت ذات وقت عن الاتحاد “من ربيع الوحدة إلى شتاء الإنقسام” عن هذه الجزئية باستفاضة، فمع أولى الخطوات في العهد الجديد بدأ التعثر البائن بالانقسام الفوقي، الذي كان سببه في الأصل عملية الإرباك الكبيرة التي وقع فيها “اليسار” بسبب المتغيرات التي اجتاحت البلاد والمنطقة والعالم، ودخوله الوحدة من دون رؤية واضحة. وكان هذا الانقسام في الأصل امتدادًا لمفروزات المؤتمر، التي تمثلت في تجاوز بعض الأسماء التي ارتبطت بتاريخ الاتحاد، والاستبدال بها أسماء أخرى من داخل بنية اليسار ذاتها، لكنها لم تستطع خلال العام الأول إدارة العجلة بالطريقة نفسها التي سُيِّرت بها طويلًا.
(5)
خرج الاتحاد من مؤتمره السادس في نوفمبر 1993، وهو أكثر تماسكاً، رغم أن أجواء الحرب كانت تخيم على البلاد، غير أنه بعد أن صمتت مدافع المتحاربين، واستباحة الجنوب، صحى منتسبو وأعضاء الاتحاد على نهب ومصادرة مقراتهم في عدن، وفُرض على الاتحاد لاحقاً نقل أمانته العامة إلى صنعاء، وأعيد تسجيله في وزارة الشئون الاجتماعية مثله مثل أي جمعية خيرية، في محاولة من السلطة لطمس تاريخه النضالي، فشعر معظم أعضائه في الجنوب بأن مصادرة الاتحاد واختطاف قراراته مركزياً، جزء من عملية تجريف الجنوب من تحالف الحرب؛ بعد ذلك بدأت تظهر بوادر الانقسام في بنيته على أساس مناطقي، ومع مرور الوقت ستتعاظم هذه المشكلة، لتصير في المؤتمر العاشر الذي انعقد في عدن في سنة تأسيسه الأربعين واقعاً، بانقسامه الرأسي على أساس شمالي وجنوبي(*)، ولعبت حرب استباحة الجنوب الثانية في العام 2015، عملية التسريع في ولادة كيان موازٍ اسمه (اتحاد أدباء وكتاب الجنوب) يقوده الصوت المطالب بفك الارتباط واستعادة دولة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. في قراءة هذه الجزئية قلت في ذات القراءة:
” بعد هذه الجائحة (جائحة 1994) بدأت تتشكل في المحافظات المقهورة ردة فعل رافضة لعملية الإخضاع والانحراف بمسار الوحدة إلى ما تشتهي رغبات المنتصر، التي عملت على تجريف إرث دولة الجنوب الثقافي والاجتماعي وثرواتها والتي رأى فيها أبناء هذه المناطق ومثقفوها احتلالًا مضمرًا. وفي المقابل كانت مرحلة اللاتوازن في عمل اتحاد ما بعد الحرب، استجابة لهذا الطارئ النفسي لمنتسبيه في الجنوب الذين كانوا يرون الاتحاد جزءًا من ذاكرة جغرافيتهم؛ إذ شهدت ولادته وتملّك مقراته، وبها أصدر مجلته «الحكمة»، إضافة إلى عملية نقل إدارته المركزية ومجلته إلى صنعاء، ابتداء من منتصف التسعينيات، كان عند معظمهم نوعًا من تجيير تاريخه الرمزي.”
(*) في المؤتمر العام العاشر بدأت تنعكس حالة اللاتوازن التي تمر بها البلاد على اصطفافات الأدباء، فبرزت وبشكل واضح الانقسامات على أساس (شمالي/ جنوب)، وانعكست بشكل مباشر على تركيبة المجلس التنفيذي للاتحاد، وتالياً على انتخابات الأمانة العامة، التي تأجّل انتخابها لشهرين كاملين، في سابقة هي الأولى في تاريخ الاتحاد، بسبب هذا الانقسام.
وبعد أشهر ستة، دخلت البلاد في ربيعها الشعبي لإسقاط النظام، فلم يُسمع صوت للاتحاد، وسُمع صوت انفرادي لبعض أعضائه الذين عرفوا بـ”أدباء مع التغيير”، كساند للثورة الشبابية الشعبية السلمية “ثورة فبراير”، ومنذ ذلك الحين والاتحاد يعيش حالة موات حقيقي؛ فأنشطته متوقفة، ومقراته مغلقة، وموظفيه بلا إعاشات، ولم يستطع عقد مؤتمره الاستثنائي، لتحديد مستقبله وهويته الكلية، بعد أن بدأت تبرز إلى السطح دعوات لإنشاء اتحاد أدباء الجنوب، واتحاد أدباء وكتاب حضرموت، ولم تنجح تلك الدعوات إلاَّ ببروز المجلس الانتقالي، كوريث لكل فصائل الحراك، ومعبِّر سياسي وأمني لصوت فك الارتباط مع الشمال في مايو 2017. فقد كانت اللحظة المثلى التي استثمر فيها الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، الذي استطاع في ذكرى استقلال الجنوب الحادية والأربعين، َ هذا الكيان وبدعم سخي من المجلس، كتعبير جليّ عن موجة سياسية عاتية أكثر منها فعلًا ثقافيًّا ونقابيًّا يمكن ترسيخه كمفهوم للتنوع.
استفاد الكاتب من:
اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. عشر سنوات من النضال – 1981؛
افتتاحيات مجلة الحكمة (1971- 1989) كتاب الحكمة (3)- بيروت 1989؛
مقالات مختلفة للكاتب في ذات الموضوع، منها “اتحاد الأدباء.. من شتاء الوحدة إلى شتاء الانقسام” 2017 و”حين ينقسم اتحاد الأدباء إلى شمالي وجنوبي”، مجلة الفيصل عدد مايو 2019، و”الوضع الثقافي في اليمن في ظل الحرب” ندوة تقنية.. أبريل 2021.
The post سؤال اتحاد الأدباء والكتاب بعد نصف قرن ما الذي تبقى من مشروع الطليعة الواعية؟ بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني first appeared on موقع حيروت الإخباري.
مشاركة الخبر: سؤال اتحاد الأدباء والكتاب بعد نصف قرن ما الذي تبقى من مشروع الطليعة الواعية؟ بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني على وسائل التواصل من نيوز فور مي