لا يكونُ القول الفصل إلا بالقوّة
في القرنِ الرابع الهجري، سأل أبو حيان التوحيدي، مسكويه عن سبب استرسالِ الإنسان إلى الموت، فأجابه: "إنّ الحياة بطبيعتها ليست بعزيزة إلا إذا سَلِمت من الآفات والمكاره ولم يلحق الإنسان فيها ما يكرهه من المصائب في الأهل والولد، وذلك أنّ الإنسان لو خُيّر بين الحياة الرديئة وبين الموت الجيّد، أعني أن يقتل في الجهاد الذي يَذُبُّ به عن حريمه ويمتنع به عن المذلة والمكاره التي وصفناها؛ لوجب بحكم العقل والشريعة أن يختارَ الموت والقتل في مجاهدة من يسومه ذلك".
صاحب الإجابة ليس مقاومًا، بل فيلسوفًا وأديبًا أشغله المنطق والتاريخ والشِعر والعلم، فإن كان منطق وواقع العقل البشري يُحيلُ إلى "استرسال الموت" أمام عاديات الدهر، فلمَ يستهجنُ وينكرُ ويرفضُ البعضَ منطق المقاوم فيها؟
أعتقدُ أنّ لبسًا ما قد وقع في الأذهان ورسخ وتورث، مكمنه عدم التفريق بين الاستسلام والاسترسال، إنّ الأوّلَ خضوعٌ وخسران وسلمية دون قتال، وهو رديءٌ مكروه، والآخر اتساع واستمرارية وبسط، وهو حسنٌ محبوب.
فمن يستسلم إلى الموت يخضع وينكسر ويذهب إليه، غايةً فيه، منتحرًا. أمّا من يسترسل الموت فهو يقبل فيه، ويقبل عليه إن كان نتيجةً لغايةٍ أعظم، وعيًا منه بأنّ ما لم يكن مختارًا بالذات سيكون مختارًا بالعرض، وهذا خيار المقاومين الذي كان من شأنه أن ينثر في أدمغةِ العالم فاقد البوصلة؛ أنّ اختيارَ الموت ثمنًا للنجاة لا ثمنًا للفناء!
لو لم نتخلَ عن القيام بدورنا كممثلين لشعوبنا لا متخلفين عنها، لما دفع المقاومون الآن بنوكاً من الدماء والجلود والأرواح
إنّهم يسترسلون في الموت ويتسعون فيه ليتمكن الذين من خلفهم من العيش كأصحاب أرضٍ لا مهدّدين بالعيش، ولأنّ عواقب الجبن والاستسلام أوخم من عاقبة السلامة، ومن استباح دمك وسرق حقك وجاء ليساومك عليه لن يسدّ جوعه ما حيي، وكثير الكلام والسّلام ومحاولة اقتسام اللقمة مع مستعمرٍ محتل لا تساوي ربع شظية من أبسط قذيفةٍ محليّة الصنع، فالكلمة الأخيرة لن تكون للبارود، بل للذين اخترعوا البارود كما قال تولستوي.
فإنّ كانت الأعوام الستة والسبعون الماضيات تضجُ بالتنازلات تحت مسمّى "حل الدولتين"، فهذا لأنّنا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية، وكان الأجدر بنا على حدِّ قول غسان كنفاني "أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية"، فلو لم نتخلَ عن القيام بدورنا كممثلين لشعوبنا لا متخلفين عنها، لما دفع المقاومون الآن (مسلحين كانوا أم صامدين) بنوكًا من الدماء والجلود والأرواح.
وأظن أنّ التخلّف عن هذا الدور من أجل "التعايش السلمي" المبطنِ بالكثير من الحزن على الضحايا المُتخيّلة في عقلية المُهيمَن، والخوف من الاشتباك ونتائجه، هو ما كان يخشاه عبد الرحمن منيف، حين قال: "أريدك أن تكون حاقدًا وأنت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب أن تحول أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر. أمّا إذا استسلمت للحزن، فسوف تُهزم وتنتهي. سوف تهزم كإنسان، وتنتهي كقضية"، فحاقدُ اليوم كان فاقدًا الأمس، حين كان الخوف سيّد الموقف، فلا يلومّن أحد المقتص بدلًا من القاتل، ولا يحاسبن أحد مقاومًا على شراسة عدوّه، فإن كانت شدّة الحزن تجرّ الخوف، فكثرةُ الحقد تجلب القوّة، والقوّة لا تحمل سوى العقل في أفلاكها، والعقل في مفهومه الأوّل، هو الربط، فإن استطعنا ربط الأحداث منذ بدأتِها كما هي، لا كما يثيرها الحزن الجارف بداخلنا، وقوّمنا المفاهيم ووضعناها في نصبها، قد يجدي نفعًا بعدها ما نفعل.
مشاركة الخبر: لا يكونُ القول الفصل إلا بالقوّة على وسائل التواصل من نيوز فور مي