"مداريّ" لسامانثا هارفي: أنشودة تمجيدٍ للأرض
أحد العناصر الأساسية التي يشير إليها النقّاد عند حديثهم عن نجاح رواية ما فنّياً هو وجود شخصيات معقّدة ومتطوّرة، تتمتّع بطابع واقعي ومتعدّد الأبعاد، وتتحرّك بتأثير دوافع قوية وتعاني من عيوب، وتتحدّى في حركية تطوّرها توقعات القراء. يلفت النقّاد أيضاً الانتباه إلى الأصالة والابتكار، وهما يتبدّيان عن طريق تقديم رؤية جديدة في العمل الروائي، سواء على مستوى البنية السردية أو الموضوع أو الأسلوب. وتظهر الأصالة في طريقة سرد القصة والتعامل مع الموضوعات والعواطف التي لم يتمّ تناولها بالطريقة نفسها سابقاً. علاوة على ذلك، تُعدّ لغة السرد عاملاً مهماً في تقييم الرواية، خصوصاً إذا كانت تتمتّع بالخصوصية والدقّة والجمال، وقادرة على إثارة مشاعر القارئ.
يتجلّى هذا كلّه بوضوح في رواية "مداريٌّ" للكاتبة البريطانية سامانثا هارفي، التي حازت "جائزة بوكر" لهذا العام. ويمكن النظر إلى هذه الرواية، وهي أقصر رواية حصلت على الجائزة (160 صفحة)، على أنها أنشودة تمجيدٍ للكوكب الأرضي وعلاقتنا به، وأهمّية حياتنا عليه في ظلمات فضاء لم يُسْتَكشف سوى جزء يسير من عوالمه وأسراره.
تدور أحداث الرواية في محطّة الفضاء الدولية على بعد 250 ميلاً عن الأرض، وترصد الحياة اليومية لستّة روّاد فضاء وهم ينطلقون عبر الكون بسرعة 17500 ميل في الساعة. ويتحوّل السرد إلى سفر استكشافي لبواطن هذه الشخصيات وأفكارها ومشاغلها، حتى الروتينية المتعلّقة بعملها.
تطرح الرواية سؤالاً على لسان حضارة تسكن كوكباً آخر: "ما الذي يفعله روّاد الفضاء هنا في هذه المحطّة الفضائية؟ لماذا لا ينتقلون إلى مكان آخر؟ لماذا لا يتوقّفون عن الدوران؟". كان الجواب واضحاً: ثمّة تعلُّق بالأرض وبجمالها الخارق ووعد الحياة عليها: "الأرض هي الجواب عن الأسئلة كلّها". إنّها وجه حبيبة مبتهجة تراقبها الأعين البشرية وهي تنام وتستيقظ، وهي الأمّ الرؤوم التي تنتظر عودة أبنائها محمّلين بالقصص والحنين. رغم أنّ عظامهم رقّت، واشتدّ نحول أجسامهم نتيجة انعدام الجاذبية، إلّا أنّ أعينهم مليئة بمشاهد يصعب التعبير عنها بالكلمات.
عودةٌ للأدب الملتزم، لكن ليس بالمعنى الأيديولوجي الوظيفي
تبتعد رواية "مداريّ"، من حيث الموضوع والأسلوب، عن تيار أدب المغامرات الفضائية السطحي والمكرّر الذي يعتمد على العنف والغزو، أو الانحرافات الخيالية التي تروّج لها أفلام هوليوود حول سكّان الكواكب الأُخرى المفترضين. لغة الرواية مكثّفة وشاعرية، وهو ما يتجلّى في الفقرة الافتتاحية التي تتناول مشهد روّاد الفضاء وهم يدورون في مركبتهم الفضائية، حيث تتداخل أفكارهم وأساطيرهم الخاصّة، وهُم يحلمون جميعاً الحلم نفسه: حلم الأرض، حيث السماء الزرقاء والوجوه المألوفة التي تغمرها الظلمة والفضاء اللامتناهي.
يذكّر نثر هارفي الروائي المشحون بالشعر بنثر الروائية فيرجينيا وولف، لا سيما في روايتها الشهيرة "أمواج"، حيث تتداخل الأصوات السردية وتغيب في حركة أسلوبية تشبه قصيدة النثر.
شخصيات الرواية ستّة روّاد فضاء يتحدرون من بلدان مختلفة: رومان وأنطون من روسيا، وشون من أميركا، وتشي من اليابان، ونيل من المملكة المتّحدة، وبييترو من إيطاليا، ولكلّ منهم مهمّة مختلفة عن الآخر. يراقب بييترو الإيطالي الميكروبات بينما تُجري تشي هي ونيل تجارب على الفئران، ويقوم الجميع بإجراء اختبارات على أجسادهم لاستكشاف حدود تحمّلهم والضغط الذي يتعرّضون له بسبب الافتقار للجاذبية طوال الوقت.
يعكس بناء الشخصيات بهذه الطريقة تنوّعاً ثقافياً؛ حيث يمكننا نحن القرّاء أن نطّلع على هموم وتطلعات وأحلام مختلفة، وكلّها تتوضّح عبر القصص السابقة حول خلفية الشخصيات التي تغنيها وتضعها في سياقين متداخلين: حياتها الشخصية وما يشغل أذهانها في العالم الواقعي الذي تنتمي إليه على الأرض، والعمل الذي تقوم به في المحطّة الفضائية. في النهاية تتلاقى هذه المصائر في توجيه رسالة مفادها أنّ الخراب الذي يُهدّد الكون، بسبب جشع ثلّة من الأثرياء، سينعكس على الجميع. بناء شخصيات الرواية على أساس أنّها من قوميات مختلفة ووضعها في مركبة فضائية ينطوي على رسالة مفادها أنّ الإنسانية، في مواجهة الأزمات، تتشارك مصيرها، وكلّنا "في قارب واحد".
في هذا السياق، يمكن اعتبار رواية "مداريّ" بمثابة عودة للأدب الملتزم، ليس بالمعنى الأيديولوجي الوظيفي، ولكن من حيث الرؤية العميقة التي تنطوي عليها الرواية. نجد أنّ الأدب هنا، علاوة على وظيفته الجمالية والفنّية، يبثّ لنا رسالة ينبّهنا فيها إلى التهديدات التي تواجه الأرض بسبب الجشع النيوليبرالي الذي يسعى للاستفراد بمواردها واستثمارها دونما اعتبار للبيئة وخرابها وخطر الانقراض الذي يهدد كوكبنا.
تبتعد عن أدب المغامرات الفضائية السطحي والمكرّر
يقوم الرواد بجمع المعلومات عن الفضاء، وإجراء تجارب علمية واختبار حدود قدرات جسم الإنسان، بينما يدورون حول الأرض 16 مرّة خلال 24 ساعة، ما يتيح لهم رؤية كوكبنا في أبهى حلله: المحيطات والصحاري والأنهار الجليدية والجبال، في مشهد متواصل من البهاء الذي لا يتوقّف عن التكشّف. ورغم انفصال الروّاد عن الأرض، فإنّهم لا يستطيعون الهروب من تأثير جاذبيتها، وهذا ما ينعكس على محادثاتهم التي تُعبّر عن مخاوفهم وأحلامهم.
رواية "مداري" هي نتاج بحث مكثّف ودراسات متعمّقة في مجال الفضاء واستكشافه، فقد عادت المؤلّفة إلى الأفلام الوثائقية وإلى ما كتبه روّاد الفضاء والعلماء، وتعمّقت في دراسة هذه التفاصيل، ثمّ انصرفت إلى تأليف روايتها، محوّلة المادة التي استخرجتها من الأدبيات إلى أدبٍ روائي صرف، وهذا يذكّرنا بروايات أخرى كُتبت استناداً إلى معلومات توصّل إليها المؤلّف عن طريق دراسته للتاريخ، مثل "المريض الإنكليزي" لمايكل أونداتجي، التي فازت بجائزة بوكر عام 1992. ولكن ما يميّز رواية هارفي هو أنّ وقائعها تجري في بيئة فضائية مختلفة جدّاً، خارج التاريخ المدوّن للتجربة الجمعية البشرية، وتعتمد على تأريخ آخر لمشاريع استكشاف الفضاء وما دوّنه العلماء وروّاد الفضاء، وتمنحنا فرصة للتأمّل في كوكبنا من موقع مختلف تماماً. وهذا ما أكّدت عليه هارفي عند فوزها بجائزة بوكر، حين قالت إنّ روايتها تكريم للأرض، ولأولئك الذين يدافعون عنها وعن حياة سكّانها، داعية إلى السلام وتعزيز الوعي البيئي.
وُلدت سامانثا هارفي في كينت بالمملكة المتحدة عام 1975، وتعيش حالياً في مدينة باث. صدرت لها العديد من الروايات من بينها "البرّية" (2009)، التي تتناول موضوع الخَرَف، و"الريح الغربية" (2018)، التي تروي قصّة جريمة قتل في العصور الوسطى، و"القلق الذي لا شكل له"، التي تتناول معاناتها مع الأرق المزمن. احتلّت هارفي بهذه الروايات موقعاً متميّزاً في المشهد الروائي البريطاني، ووصفتها الناقدة الأدبية المعروفة غابي وود بأنّها "فيرجينيا وولف هذا الجيل".
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتّحدة
مشاركة الخبر: "مداريّ" لسامانثا هارفي: أنشودة تمجيدٍ للأرض على وسائل التواصل من نيوز فور مي