هشاشة "الامتيازات" الممنوحة من الاحتلال الصهيوني
يمكن القول، وبدرجةٍ عاليةٍ من الثقة، أنّ "طوفان الأقصى" قد كشف، بما لا يدع مجالًا للشك، أنّ ما يعتبره الاحتلال الصهيوني امتيازًا يمنحه للفلسطينيين، جزئيًا أو كليًا، هو في الواقع هشٌ وغير مستدامٍ، بل ومؤقتٌ وآنيٌ ومحدود الصلاحيات، وغير محميٍّ، مهما صغر، ومهما كان. مع العلم أن ما يسميه الاحتلال "امتيازًا" هو في الحقيقة جزءٌ يسيرٌ من الحقوق الفلسطينية الأساسية، بل جزءٌ من الحقوق الإنسانية العامة. إذ لم تكتف حكومة بنيامين نتنياهو الحالية بالحديث عن سلب الفلسطينيين حقوقهم كلّها، و"الامتيازات" التي نجحوا في انتزاعها من براثن الاحتلال على مدار عقودٍ من النضال، داخل الخط الأخضر وخارجه، بل مارست السلب عمليًا وبوتيرةٍ متسارعةٍ، كما في سلب الحقوق المدنية والقانونية التي تمتع بها فلسطينيو 48 نسبيًا، أو حقوق الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، أو حتّى ما يوصف باعتباره "حكمًا ذاتيًا فلسطينيًا" في بعض مناطق الضفّة الغربية، أو استثنائية وضع الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، خصوصًا في مدينة القدس، أو ما تعلق بقطاع غزّة، وتحديدًا الانسحاب العسكري منه، وتفكيك المستوطنات.
لكن وعلى صعيدٍ متصل؛ دفعت هشاشة "الامتيازات" الصهيونية الممنوحة للفلسطينيين بعض الأصوات إلى تحميل "طوفان الأقصى" مسؤولية هشاشتها وخسارتها، منها أصواتٌ ترحمت على ما وصفته بـ"ضياع نعيم أوسلو المأمول"، وأخرى أشادت بواقعية سلطة رام الله وحكمتها!! وكأننا أمام لحظةٍ فارقةٍ قلبت الأحداث 180 درجة، من استقرارٍ وأمنٍ وإخاءٍ ومحبةٍ، إلى بغّضٍ وعداءٍ وعنفٍ! تكشف هذه الثنائية المتخيلة عن أزمةٍ فلسطينيةٍ عميقةٍ، مفادها عجز النخبة الفلسطينية، السياسية والثقافية والأكاديمية، عن تحليل الواقع تحليلًا علميًا بعيدًا عن الميول السياسية أو المصلحة الفردية/ المالية أو الحالة النفسية، أو جميعهم، الأمر الذي يفسر غياب الحوار الفلسطيني- الفلسطيني، ليس على المستوى الفصائلي فقط (تحديدًا بين فتح وحماس)، بل حتّى على المستوى الأكاديمي والثقافي والنخبوي، من ناشطين ومؤثرين وفاعلين، وصولاً إلى غياب الحوار الداخلي الفلسطيني على مستوى الشعب الفلسطيني برمته.
نلحظ أنّ تسارع وتيرة الإرهاب والإجرام الصهيونيَين بعد "طوفان الأقصى" استند إلى تسارعٍ سبقه قبل الطوفان، لا يقل خطورةً عنه
إذ تحدثت تقارير صهيونيةٌ عديدةٌ قبل "طوفان الأقصى" عن إمكانية تطويع حركة حماس، بل أشاد معظمها بقدرة الحركة على ضبط رد فعل سائر الفصائل المقاومة العاملة في قطاع غزّة، لذلك منح الاحتلال غزّيين عدّة تراخيص عمل داخل الخط الأخضر، كما بدأت نظريات السلام الاقتصادي في التداول هنا وهناك. الأمر الذي دفع بعضهم إلى الاعتقاد/ التوهم بأنّ ذلك بدايةٌ لاعترافٍ صهيونيٍ بالوجود الفلسطيني، يتبعه اعترافٌ، ولو جزئيٌ، بالحقوق الفلسطينية.
ترافق الحديث الصهيوني السابق مع تصاعدٍ صارخٍ في وتيرة الفاشية والإجرام والإرهاب الصهيوني تجاه الكل الفلسطيني، حتّى داخل الخط الأخضر، إذ كانت فاشية حكومة نتنياهو وإجرامها واضحين منذ يومها الأول، وبدرجةٍ ما كانت كذلك الحكومة السابقة، ليس تجاه عموم الضفّة الغربية المحتلة (بما فيها مدينة القدس) فقط، بل حتّى تجاه الأسرى والسجون وفلسطيني 48. كما في تسليح المستوطنين ودعم جرائمهم، وفي حرق حوارة وسواها، وكما في سحب ما يعرف بـ"امتيازات الأسرى"، وكما في عشرات مشاريع القوانين التي طرحها الائتلاف الحاكم في الكنيست، والتي أقر الكنيست بعضها بالقراءة التمهيدية أو الأوّلى قبل السابع من أكتوبر 2023، والتي استهدفت الفلسطينيين جلّهم أينما كانوا، مثل قانون إعادة الاستيطان في أقصى شمال الضفة الغربية، وقانون شطب ترشح قوائم الانتخابات التي تمدح مقاومين فلسطينيين، وقانون يتيح لحاضنة الاحتلال الاجتماعية مقاضاة السلطة الفلسطينية وتغريمها بتعويضاتٍ باهظةٍ عن أعمال المقاومة الفلسطينية، وقانون منع علاج الأسرى، وقانون حظر رفع العلم الفلسطيني، وقانون فرض عقوباتٍ عمن يتماثل مع المقاومة الفلسطينية، وقانون يمنح المستوطنات ميزانيات المجالس البلدية ذاتها، وقانون يلزم العرب بتأدية الخدمة العسكرية أو المدنية، وقوانين تمنع مقاضاة الحكومة الصهيونية من قبل المراكز الحقوقية، وقانون لحجب الميزانية عن مدارس القدس التي تتبع المنهاج التعليمي الفلسطيني، وغيرهم الكثير من القوانين.
من ذلك كلّه، نلحظ أنّ تسارع وتيرة الإرهاب والإجرام الصهيونيَين بعد "طوفان الأقصى" استند إلى تسارعٍ سبقه قبل الطوفان، لا يقل خطورةً عنه، الأمر الذي يتطلّب من الفلسطينيين الكف عن أسلوب المزايدة السياسية السخيفة، التي يمارسها جمهور حركتي فتح وحماس، وخصوصًا الأوّلى، والبدء في نقاشٍ سياسيٍ جديٍ خارج الأطر التنظيمية، خصوصًا خارج فتح وحماس، من أجل التأسيس لحقبةٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ مقاومةٍ وتشاركيةٍ، تستوعب الاختلاف السياسي والفكري والمنهجي، وترفض نهج الاستفراد والتنازل، وهو ما قد تسارع الحركتين، أو إحداهما، للحاق به قبل فوات الأوان.
مشاركة الخبر: هشاشة "الامتيازات" الممنوحة من الاحتلال الصهيوني على وسائل التواصل من نيوز فور مي