واستقرت بها النوى
"من الذكريات التي لا يمكن أن أنساها أن رجلاً هندياً من أقارب الشيخ علي كان يبدو عليه الثراء، جاء حين كنا ندرس في الكتاب في المسجد في صباح أحد الأيام الشاتية، وجمعنا، ومدّ سفرة وضع هو ومساعدوه عليها أنواعاً من الأجبان والألبان والحلويات والخبز وأشكالاً أخرى من المآكل التي لم يكن معظمنا يعرفها، ودعانا إلى الأكل، فأكلنا حتى شبعنا، وكان يمر بنا ويتفقدنا طوال ما كنا نأكل، ويحثنا على أن نأكل المزيد؛ ولما انتهينا من الأكل جلس على كرسي وأمامه قارورة "فازلين" كبيرة، وأخذ يدهن أيدينا وأرجلنا ووجوهنا به لمعالجة ما كنا نسميه "الشقاق"، وهو تشقق الجلد بسبب البرد!".
السطور أعلاه نقلتها حرفياً من الكتاب الضخم (واستقرت بها النوى/ 600 صفحة) الذي ضم سيرة شافية وافية لمسيرة الدكتور حمزة بن قبلان المزيني. أعادت إلى ذاكرتي تلك السطور مشاهد عرفتها وعايشتها من مساهمات الهنود الإنسانية في المدينة، مساهمات كانت تقدم بصمت ونكران ذات، من أفراد وجماعات، لا يهدفون من وراء تقديمها إلا إكرام جيران الرسول عليه السلام، ومما لمسته وعايشته منذ الصغر أن أمي - رحمها الله - كانت تأخذني عندما كنت في صغري إلى طبيبة هندية استأجرت بيتاً في منطقة "الجنان" كانت تعالج فيه الأطفال وتمنحهم الدواء مجاناً، وفي "السحيمي" صحية هندية (مستوصف) كانت تقدم خدمات صحية مجانية، وفي حارة "ذروان" كنت أصادف يومياً أثناء ذهابي إلى المدرسة رجلاً هندياً يوزع الطعام على قطط الحي كل صباح، وفي مدرستي الابتدائية، التي أسستها وتصرف عليها أسرة من أصول هندية، في هذه المدرسة، كان يُمد سماط سنوي فاخر فيه ما لذ وطاب من الأطعمة للتلاميذ، وبعد الانتهاء من الأكل توزع طاقات قماش على فقراء التلاميذ، ومع كل طاقة قماش ريال فضة. والدراسة والأكل والهدايا كلها من هذه الأسرة. هذا غير الدار الضخمة التي كانت ترعى الأيتام في "باب المجيدي".. لكن المعلومة الجديدة هي وصول بر هؤلاء الهنود إلى مساكن البادية والفلاحين، خدمات تقدم بنكران ذات، للحد الذي يقومون فيه بدهن أيدي وأرجل أبناء البادية لمعالجتهم من "الشقاق" وهو داء كان منتشراً في أوساط أبناء البادية والفلاحين!
وأنا أغوص في هذه المذكرات الممتعة، راودني إحساس أن هذا الرجل نصفه بدوي، ونصفه حضري، فعاداته وتقاليده المبثوثة في صفحات المذكرات لا تختلف كثيراً عن عادات الفلاحين التي عشتها، فقد كانت عندنا عشة للغنم، وكانت أمي تنهمك مع الفجر في خبز الفطير، وحلب العنز، وتفقد الدجاج، وكنا نتطير من لحم البقر والجمل، ولا نأكل البيض ولا الدجاج؛ لكننا نقدم مرقة الديك أو الدجاجة للمرأة عندما تلد! رغم أننا كنا نسكن في تلك المرحلة في منزل من الإسمنت المسلح مزود بالماء والكهرباء!
وفي سيرة حمزة المزيني الكثير من المواقف التي تكون قد مرت بي بما فيها حديثه العابر عن متوسطة عمر بن الخطاب ومديرها "عبدالله دبور"، ونتف من أجواء "مدرسة طيبة" التي دخلتها لعامين، وكذلك حديثه عن "هوشة النخاولة" التي لا أدري حتى الآن، لماذا يتم التحسس من الحديث عنها، رغم أنها وقعت قبل أكثر من نصف قرن.
مشاركة الخبر: واستقرت بها النوى على وسائل التواصل من نيوز فور مي