عوالم ما بعد اللباس
يتجاوز اللباس مفهوم ستر الجسد إلى عوالم ما بعده، وهو لا يعكس الهوية فحسب بل يبرز خصوصية متفردة لكل شخص، ومن هنا تأتي فكرة الزي الخارجي لما بعد اللباس كمظهر عام يليق بالإنسان ويتفرد به عن غيره، لأن الزي واللباس مطلب فطري عند غالبية البشر، واستتباعاً لذلك تصبح العلاقة بين الزي الجمالي واللباس الساتر علاقة ذوق وجمال لمظهر الإنسان الجذّاب، الأمر الذي يضفي على الملامح جمالية مختلفة تعكس حسه الذوقي ووعيه الجمالي بصف وترتيب الزي الذي يرتديه مع تنسيق يليق بمفهوم تكريم معنى الإنسان، ففي الوهلة الأولى يكون أكبر حضور للشخصية يتجلى لنا في مظهره العام ليعكس حالة حضور تزهو به، ومضامين جمالية وأناقة لائقة، باعتبارها عناصر تضفي هيبة وقار وقشابة مظهر تعلي من مكانة الإنسان وقدره عند الناس.
إن عدم التهندم بأناقة واضحة في المناسبات الاجتماعية والرسمية تعني عدم اللباس فضلاً عن الزي وجماله، ما يعني تجاهلاً للذات وغياباً للحضور الوافر والمعنوي وخلافه حضورٌ باهت لا تلتفت إليه، إذ لربما من خصائص الزي والهندام أنه مكمل لشيء مفقود عند أي شخص لأن النقص وارد، والكمال لله تعالى، ونحن هنا لسنا من دعاة التبذير والبذخ أو المبالغة والمغالاة في اللباس ولكن نسعى لتوكيد القيمة الاجتماعية وحضور لا تخطئه العين عند الجميع، على مبدأ (انزلوا الناس منازلها) وهي مقولة وردت في الأثر العربي حين كانت العرب تحفل بصاحب الزي والهندام واللباس الأبيض النظيف وهو يمتطي صهوة جواده، تلك الوجاهة والبريق الذي يستحق الاهتمام والتقدير والحفاوة الاحترام، انطلاقاً من موحيات الشكل وملامح المنظر العام، بعكس من كانت ثيـــابه رثة ولا يكتــــرِث أبداً للــزينة، ويُضعِف التواصل مع محيطه ولا يخدم سياق ترابط العلاقات مع غيره ويحسبه الطرف الآخر ضمن المنظومة غير الفاعله لأن الزي واللباس الرث يعكس حالة انطوائية وشخصية لا ترغب في بناء علاقات وتواصل مع الغير، بل البعض يذهب إلى أبعد من ذلك في تحليل نمط تلك الشخصية، عكس الآخر الذي ظهر بهيئة مختلفة يُرى بعين واسعة، وأتاح لنفسه مساحة كبيرة باعتباره عنصراً أساسياً ومحورياً في التواصل مع الآخرين، والإنسان بطبيعته يبني علاقته الأولى على هذا الأساس بناء على دوافع جملة من المشاعر والأحاسيس التي تدفعه نحو ذلك الشخص المتزين بلباسه، حتى أننا في تصرفنا العام عندما نتبضع لا نقبل إلا ما كان زاه المنظر ومتوهج في نظرنا، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يظهِره الإنسان على نفسه ويوحي بالوعي والمكانة وكذا يوحي بالنعمة والخير هو زينة لباس وهندام جميل يعكس واقع رضا وحالة استقرار وحب للحياة وتفاؤل دائم ومستمر، والقرآن الكريم يشير إلى مثل هذه المفاهيم في غير موضع (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) يصور حالة إدهاش في النظرة الأولى التي ينشدّ إليها الإنسان وتصور مدى انتظام الملامح ونظارة جمال الشكل، ولهذا كانت كل المفاهيم الجمالية مرتبطة بالقيم الأخلاقية، والإيمان هو الآخر اقترن بالنظافة، ومن خلال سعة أفق هذا الترابط والتواشج يتأكد لنا أنه لا غنى لأي شخصية من الاعتناء بالمظهر العام ليكسبها قيمتها، ويجسد واقع وعيها، ويمثل حقيقة محاسن ذوقها، ويبسط سعة قبولها عند المجتمع.. وإلى لقاء.
مشاركة الخبر: عوالم ما بعد اللباس على وسائل التواصل من نيوز فور مي