إلى جنة الخلد
تجري الأيام وتجري الأفلاك في كوكبنا العظيم مترامي الأطراف، تجري جريان السفينة الضخمة في محيطٍ ليس له حدود إلا حينما تريد هذه السفينة التوقف للتزود وإنزال ركابها، وتظل تجري تحمل قوماً وتنزل آخرين، وكل من ركب هذه السفينة فإنه حتماً سينزل في محطة أو ميناء، وما أكثر ما حملت سفينة الأيام ركاباً! وما أكثر ما أنزلت آخرين! والمشكلة أن هؤلاء الركاب يصخبون ويفتتنون وربما يقتتلون داخل هذه السفينة لتنتهي حياتهم، بينما السفينة تمخر عباب بحرها لا تحس براكبٍ أو بنازل...
بالأمس نزل من سفينة حياتنا أحد الكرام النبلاء، والذي مر على هذه الدنيا مروراً جميلاً مليئاً بالنشاط والحيوية، مليئاً بالتفاؤل والانشراح والكرم، وفوق ذلك مليئاً بالإيمان والتسليم بكل ما يجري به القدر، إنه الأستاذ الصديق عبدالرحمن الحسيني، ذلكم المثقف الموسوعي والرجل الذي مارس شؤون الحياة بكل ما فيها من قلقٍ واضطراب، فقد مارس التجارة، ومارس الشعر والإبداع، وخاض كثيراً في مغامرته تلك يتلقى الخسارة كما يتلقى النجاح متوكلاً على الله مدركاً أن المولى خلق الإنسان كي يسعى ويضرب في مناكب الأرض...
ولقد كان هذا المثقف النبيل كريماً تلقائي النبل متدفق الكرم كنهرٍ لا يسأل مصبه عن منبعه، أذكر أننا عندما قمنا بالنشاط الثقافي في القاهرة -أيام عملي بوزارة التعليم- أكرمنا إكراماً فوق ما يتصوره المرء، وقد كنا وفداً كبيراً مكفولاً من وزارة التعليم في كل شؤونه، ولكن المرحوم الدكتور عبدالرحمن لم يترك لنا مجالاً للحديث أو المناقشة، فقد كان يأتي إلى الفندق صباحاً ولا يتركنا إلا بعد منتصف الليل، كان يحضر الاجتماعات والندوات والأمسيات الشعرية وكأنه المعني والمسؤول عن هذا الوفد، وفوق ذلك كان يدعو المثقفين والأدباء المصريين الآخرين الذين لم تتم دعوتهم لكي يقفوا على الثقافة السعودية، بل كان يدعو ويكافئ بعض الصحفيين ليغطوا هذه الأنشطة، كل ذلك نبلاً منه ووفاء لدولته ووطنه، إنه بحق، نموذج للرجل الوطني الذي تتدفق الوطنية من روحه دونما تكلفٍ أو تصنع، وهذه هي الوطنية الحقة، هذا هو الحب الصادق للوطن وأهله.
وأذكر أنه أصيب بما يشبه العمى المفاجئ، وكان وقع الخبر علي مؤلماً، فلما تحدثت إليه لمواساته في بصره وكنت مكروباً متألماً، وجدته مطمئناً منشرح الصدر لطيفاً كما عهدته، وقال: الحمد لله فنعم الله علي كثيرة، فهأنذا أتحدث إليك بكامل عقلي وجسدي سليماً من الأوجاع، ولدي ما يكفيني وأولادي من المال الكثير، وأنا محاطٌ بالمحبين، وتلك نعمٌ لا تعد ولا تحصى..! فشعرت كم هو كبيرٌ بيقينه وإيمانه.. فاللهم ارحمه رحمة الكرام البررة، وأنزل العزاء والسكينة على أهله ومحبيه، وإلى جنة الخلد يا أبا عبدالله بمشيئة ربٍ غفورٍ رحيم.
مشاركة الخبر: إلى جنة الخلد على وسائل التواصل من نيوز فور مي